الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الجمعة 17 / مايو 02:02

قصة قصيرة بعنوان:كحل للعيون/ بقلم: وحيد عياشي

كل العرب
نُشر: 05/05/13 22:07,  حُتلن: 07:48

كان اكثر ما يثير غضب الجدة ويخرجها عن طبعها الاعتيادي الرزين ،انفجار دبة الصوت . وهو مصطلح لغوي اتبعه العامة واعتمده الشارح في محاولة لاعطاء وصف دقيق لفوضوية اختلاط الاصوات العالية بعضها ببعض والمجردة من أي منطق فهم او حس متدارك. فيعلو وجهه جدتي اللون الاحمر الداكن لون الدم المحقون في وريد مشحون حرقة وأسى فتبدأ شفتاها الهزيلتين والرثتين بالارتجاج قبل ان تشرع عيناها الصغيرتين الغائرتين بفعل الزمن، البحث عن مصدر هذا الهدير المدوي في جنب الحي وعن وجهة خروجه. وكثيرا ما كانت تضع يدها على قلبها دليل تحسبها ان يكون ذاك الابن الشقي قد هاج وماج ثانية وبدأ جولته الاعتيادية في الاقتتال ونفث جام غضبه على الزوجة والأولاد او قد تحّصل الأسوء من بين كافة الاحتمالات المؤرقة لها الهجوم السافر على بيت الجيران المعتاد .

كان يدّمع عينيها هذا المترف المشاكس وتأخذها الحيرة لحاله ، فكم من مرة همّت بسواعدها الضعيفة ان تلقنه درسا بلطمة على الوجه او بقبضة يد مباشرة على صفحة الظهر كي يكف ويتعقل لكن دون جدوى وبدون فائدة. الامر الذي حدا بها في احد الايام وبتأييد خفي وتعاون كامل ومفتوح من قبل الكنّة بأخذ طرف قميصه لأحد المشايخ المعروفين في البلد والواصلين في فك الحجب لصنع عمل كفيل بالحد من شطحاته الجارحة وثوراته المنفلتة لأنه وبحسب ما اعتادت التصريح به علانية ، ان هذا الابن واقع تحت تأثير جنية وليس انسية والا لكان صلح لسانه وتغير لفظه مثله مثل الكثيرين ممن حملوا هذه الطباع الصعبة المراس والعصية المعشر الذين تابوا واهتدوا ثم عاشروا الدنبا بقناعة وطيب خاطر. وقد كلفتها هذه الخطوة وفي غير مرة بعضا من مالها القليل المدخر لحلكة الايام وفرح المواسم لكنها لم تبالي لأنها ارادت الخير لابنها ومساعدته كي ينفك من جهتها عن تسويد عيشتها الهنية وتلطيخ وجهها ذو الاطلالة المستديرة امام الجارات المؤنبات والموبخات لها عند افتتاح كل صولة ووقت ظهور كل جولة. في نهاية المطاف وبعد طول انتظار تيقنت بأنه لن يأتي أي حل لا من الارض ولا من السماء فعزفت عن انشغالها بالفكرة ولم تعد تبالي لذات الامر شيء ولحسن حظها اذا كان من الممكن الحديث عن جانب ايجابي في حيثيات هذه الجلبة او قل النتوء في حياتها ، ان علاقاتها الاجتماعية مع جاراتها لم تتضرر ولم تخدش خاصة وكل الحي بحجره وبشره كان يعلم ويجمع بمدى تأذيها منه ومن خصاله الرديئة وصدقها في محاولاتها المتكررة جره الى الطريق السوي الخالي من طلعاته المنحنية ونزلاته الزلقة .في الايام الاعتيادية، الخالية من دبات الصوت، كانت تعود جدتي الى رتابة فنجان قهوتها المهيلة والمطبوخة على نار هادئة تفاخر ضيوف الصباح المعتادين بمذاقها القوي غير ابهة لملاحظاتهن التي تومئ بها شفاههن حين يرشفن اول رشفة ثم يعدن الثانية بذات اللحظة والشغف فيخجلن من انفسهن وهي التي لا تفتها فائتة تبقى تراقبهن تحت نظرة خاطفة تطلقها من عينتاها المكحلتين تكفيها لفضح غيرتهن وما يسترون. كنت اشهد هذه الجلسات وأسترق النظر قليلا والسمع كثيرا للأحاديث الجارية بصمت وخيفة حول شتى المواضيع المتداولة والمتداخلة بعضها ببعض دون التوقف او حتى الاشارة بوجوب قلب صفحة موضوع الى اخر او تغيير وجهة الكلام كنت احيانا اقف مشدوها من شدة احتدام الجدال وصخب الاصوات فأختال نفسي في وسط سوق يهوج ويموج تحت وطأة المارين ويطير عقلي لاني لا ارى سببا منطقي يفسر لعقلي البدائي كنه هذا الجلبة ، لكن كيف لي وأنا هذا الولد الصغير الذي يلعب بين طيات جلابيبهن ان أقطع المشهد او أعلن عن وجودي في حضرة هذا المقام المثقل بتراكم الايام وتوالي السنون فكم من مرة اسعفتني الحظوة عند الجدة من اعتراض الجليسات لتواجدي الثقيل والغير مبرر من قبلهن. كانت توسلاتي تلقى لها منفذا دافئا في قلبها فأجد لي مهربا باردا من حر الشمس في باحة البيت تحت عريش الدالية الكبيرة فأبقى هناك طيلة الظهيرة اتلهى بألعاب الصغار واستمع لكلام الكبار. ككحل العيون كانت الامسيات سعيدة والأجواء هنيئة حافلة بلّمة الاقارب والأصحاب مغلفة بضوء القمر الواقف فوق الساهرين وكأنه يحميهم من عتمة الليل وحلكة المكان. لا حد لأفق الحب الذي كان يملأ الحاضرين ويتملكهم شذرات انسجام ولوحات جمال فينعكس ويظهر في دعابة الصغار وضحكاتهم المتعالية. وهي محط الانظار ومحور الزوار، حيث اعتادت بأن تستلقي على عرشها الحديدي متكئة على وسادة ثخينة تطل على الجمع وتبقى متنبه ومتيقظة تحسبا لكل امر وطارئ وكأنها قوات تدخل سريع في حالة تأهب قصوى وكأني بها تتضرع للخالق ان يبقي على هذا المشهد الى الابد. لا تزال نبراتها تدوي في اذاني وصورتها تتصدر ذاكرتي وهي تجتّرح الصور من سنوات عمرها الماضيه في بلد غاب اصحابه قسرا وتهدمت جدرانه عنوة وتطلق أنات وأهات من عمق صدرها المنكسر تجلجل في ثنايا غرفتها فيظن السامع بأن احدا يتلفظ انفاسه الاخيرة ويستحضر عظمة الموت وتروح تلوح بكلتا يديها لظلال مروا من امام عينيها المغمضتين لاناس لم تعد الاسماء تشهد لوجودهم فأحسب بأنها تناديني وأقترب فتكون قد هدأت وغطت بالنوم. استمرت دواليك الليالي تطوي جدتي وتقرض من عمرها ولم يكن احد سواي يشهد على مقاطع انعكاس ذكرياتها من الماضي البعيد في مرأتها المعلقة قبالة سرير نومها وكأني على موعد يومي مع مسلسل انتظر حلقاته بتلهف المتتبع وتشوق المنتظر فلا يغمض لي جفن قبل ان ارى شخوصه المتعددة وأتعرف على حبكاته الطريفة التي تتوارد على مسامعي من تسابق خيالات ذاكرة فأنسجها قصة ممتعة لمكان وادع ولدوا فيه اناس عاديون كأحلامهم وترعرعوا كسائر بني البشر بين اشجاره وعلى ضفاف وديانه الى ان دوت دبة الصوت الكبيرة قبيل خمس وستون عام تشقلبت على اثرها الدنيا رأسا على عقب وصار الساكن لاجئ والقاطن نازح. والت رياح التغيير بجدتي الى شتى الاحتمالات حتى حطت على مقربة من شواهد الوجع المتمثل بأكوام تراب البيادر وأحجار المقابر لم تبغ السير بعيدا لأنها وبحنكتها ارادت ان تكون على مرمى حجر من بيتها كيف لا وهي الفائزة دوما في كل منافسة على بنات جيلها وقد دفعها شغفها بالفضاء الواسع منذ ذلك الحين ألاستمرار في طلب الحياة لها ولافراد عائلتها الى ان دخلت يوما بجسدها وروحها عالم لم أكن أنا جزءا من تقاسيمه ولا لمحيطها القريب لونا فيه فصارت تغيب كثيرا وتحضر قليلا حتى جاء اليوم الذي نفذ منه وقود حيزها من هذه الدنيا وزال اثار الكحل الطري عن خط عينيها فسقطت جثة هامدة وروحا طائرة. بكيتها ملأ استطاعتي وبكاها بشدة ذالك الابن المشاكس بحيث لم يدر بخلدي ساعتها انه يملك كل تلك الدموع المنهمرة على خديه بغزارة المطر ولطالما تمنيت لو تستفيق لحظة لترى بعينيها هذا الفيض من الحب الكبير الذي خبأه لها بين طياته وكأنه سر عظيم حفظه لئلا ينقص او يصيبه مس فتركه يكبر ببطء وعلى مهل بين جنباته حتى ينضج في أوانه ثم ينبلج ويتدلى كقطف عنب مشتهى للناظرين، تمنيت لو ترسم له في الهواء بسمة خفيفة اوتبعث له نظرة دافئة يروي بها عطش ايامه وينام ملئ جفونه لكن تكون الغيوم السوداء حال دون صفاء الجو وتحقق الامنية وغادر الجمع المكان تاركين كل اتساع المساحة لرقرقة حبات المطر وهي تتساقط على وجه عتبة المستحيل حيث دائما كان هناك متسعا لبعض الكحل للعيون.

كابول
موقع العرب يفسح المجال امام المبدعين والموهوبين لطرح خواطرهم وقصائدهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع منبرا حرا في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجي إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع على العنوان:alarab@alarab.net

مقالات متعلقة