الزلزال.. أحلى قصة لأحلى أطفال في موقع العرب

كل العرب
نُشر: 30/09/10 18:33,  حُتلن: 07:31

انتهينا.. هتف أحمد بفرح ظاهر، وهو ينظر بفخر واعتزاز إلى العمل المتقن الذي أنجزه الفتية بصبرهم وتعاونهم ودأبهم..
قالت سعاد (ذات الأعوام العشرة) وهي تزغرد: إنها فكرتي.. إنها فكرتي.. نظر عصام بطرف عينيه زاجراً: سعاد لا تكوني مغرورة الفكرة الجيدة تحتاج إلى تشجيع وإلى تنفيذ متقن.. لتكون واقعاً جيّداً، الكل عمل بصبر ونشاط.. إنها هديتنا جميعاً لأهلنا..
نظرت رانية بوجوم شديد إلى البيوت الخشبية المتلاصقة، وعندما سألها أحمد: ما الأمر لِمَ أنت حزينة يا رانية..؟؟
قالت بحزن شديد: أعتقد أن أهلي لن يقبلوا فكرة الانتقال إلى هذه البيوت.
أحمد: سنقنعهم.. إنها مهمتنا.
رانية "بتصميم": لن يستطيع أحد إقناع والدتي.. إنها تعشق المظاهر.
عصام: سنقول لها.. اعتبريها رحلة مع الكشّافة لاستكشاف الطبيعة وأسرارها..
رانية "بأسف": الاستكشاف الوحيد الذي يثير أمي هو ما تحمله جيوب أبي من نقود.
ضحك الفتية بصخب.


صورة توضيحية


قالت سعاد: سنقنع الجميع بأنها رحلة إلى الجبال لاستنشاق الهواء النظيف.. محددة الوقت حتى تنتهي الأزمة.
رانية "بتأكيد حزين": حتى الرحلة.. ترفض والدتي المشاركة فيها إن لم تقضها في أفخم المقاهي والمنتجعات..
التفَّ الأصدقاء حول رانية (وكانوا تسعة عشر فتىً وفتاة وهي تكمّل العدد عشرين.. كانوا جميعاً من أعمار متقاربة.. أصغرهم في التاسعة وهو سمير الأخ الأصغر لرانية وأكبرهم في السادسة عشرة وهو أحمد الأخ الأكبر لسعاد..).
رددوا بمرح ظاهر.. لا تهتمي.. سنقنعهم.. سنقنعهم.. ومن ثم انطلقوا باتجاه بيوت الأهل لشرح الفكرة وإقناعهم في الطريق قال عصام (الأخ الأوسط لسعاد): ماذا لو لم يقتنع أهل رانية منا.
أجابت نور بتصميم: إن أصرّوا.. فسنحضر رانية معنا.
انتفضت رانية وقالت جازمة: لن أترك أهلي أبداً لأنجو بنفسي..
كانت البيوت الخشبية المتلاصقة تغيب رويداً.. رويداً عن أنظار الفتية لكنها كانت تسكن قلوبهمْ وعقولهمْ..
بيوتٌ صغيرة.. متلاصقة.. جدرانها من خشب صناديق الخضار والفواكه. وأسقفها من القش الخفيف.. مجهزة بمفارش أرضية بالية عليها أغطية قديمة.. وفيها بعض الأواني النحاسية الرخيصة الثمن وبعض الغازات القديمة.. مع بعض الجرار المعدّة للماء.. وبعض أدوات التنظيف. إنها غاية في التواضع.. لكنها تحتوي على المستلزمات الضرورية.. التي استطاع الأولاد استجرارها من بيوت الأهل دون لفت انتباههم نظراً لكونهم كانوا متفقين على العمل السري دون إخبار الأهل فباعتقاد أحمد أن الكبار سيهزؤون من الفكرة وسيضعون العراقيل في طريق تنفيذها..
لقد استغرق العمل ثلاثة أشهر متواصلة.. كانوا يتعللون بالغياب الطويل فيها عن البيوت بأعذار شتىً.. أحياناً يصدقها الأهل.. وأحياناً أخرى يتعرض الأولاد فيها للمتاعب المختلفة.
ذات يوم.. نال التعب من رانية فاستلقت على الأرض قرب أحد البيوت. نهرتها نور.. وقالت محفّزة: هيّا.. لا بد أن ننتهي فقد يحدث الزلزال الآن.. وتبتلعك الأرض في باطنها..
نهضت رانية مرعوبة.. وهي تردد "بعيد الشر.. بعيد الشر" وحتى يخفف عصام من توترها.. قال ممازحاً: هل تعرفون أن القدماء كانوا يعتقدون أن الكرة الأرضية محمولة على قرنيّ ثور كبير.
عندما يتعب أحدهما ينقلها الثور إلى القرن الآخر ليريحه مما يسبب الاهتزاز والكوارث..؟؟
ضحك الجميع.. وقال سمير: أدعو الله أن لا يتعب الثور قبل الانتهاء من عملنا..
يومها سألت نور عصاماً: هل تعرف شيئاً عن سبب حدوث الزلازل والبراكين يا عصام.
عصام: إنها كوارث طبيعية تحدث دورياً.. من صنع الخالق..
انبرى أحمد للشرح مقاطعاً: قرأت يوماً في مجلة علمية موضوعاً يتحدث عن الزلازل والبراكين.
ترك الجميع ما بيدهم من أعمال والتفّوا حول أحمد الذي تابع بحماسة: إن الأرض مؤلفة من طبقات عديدة ونحن نسير على القشرة منها. مثلما تظللنا سبع سماوات الأولى فيها مزينة بالنجوم والقمر. وباطن الأرض مملوء بالسوائل الحارة.
يحدث أحياناً أن تندفع هذه السوائل نتيجة شق أو صدع أو ضغط يمارس من خلال الطبقات الأعلى فيسبب اندفاعها البراكين.
ويحدث أحياناً انزياح لإحدى الطبقات عن الأخرى مما يسبب شقوقاً وانهيارات إن كان الانزياح خفيفاً.. وزلزالاً في الحالات الشديدة..
سألت سعاد "التي كانت تتابع الحديث باهتمام شديد". ولماذا يحدث هذا الانزياح..؟
أجاب أحمد: حسب ما قرأت لهذا أسباب كثيرة مرتبطة بما يحدث فوق سطح الأرض من نشاط.
فمثلاً اقتلاع الأشجار يؤدي إلى انزلاق في التربة وهذا يؤدي إلى شقوق. وما يرميه البشر من نفايات كيميائية تصب في مجاري الأنهار الباطنية تسبب أيضاً تغيرات في بنية باطن الأرض.
الغازات والأبخرة المتصاعدة من الآليات والمصانع أيضاً تؤدي إلى رفع درجة الحرارة وهذا يؤدي إلى انهيارات جليدية.. وإلى تغيرات باطنية تؤدي إلى حدوث كوارث عديدة..
صرخت سعاد وكأنها وجدت حلاً للغز ضائع من زمن:
لماذا يقول عصام إذاً من صنع الخالق..؟؟ إنها من أخطاء البشر.
ضحك أحمد وهو يؤكد: دورة الحياة كلٌ متكامل والتوازن في كل ما عليها هو سبب استمرارها.. أي خلل في هذا التوازن يسبب الكوارث.. جزء من الخلل مسؤول عنه الإنسان وجزء آخر من قوى الطبيعة القاهرة.. ولا يد للإنسان فيه..
كان رأس سعاد الصغير ما زال يعمل عندما نبّه أحمد الجميع:
هيّا إلى العمل يجب تثبيت الأخشاب بالأرض.. حتى لا يسهل اهتزازها أو تهدمها..
ضحك عصام وهو يقول: حتى لو تهدمت.. لن يكسر رؤوسنا الإسمنت المسلح والحديد.. إنه مجرد قش خفيف سيداعب شعرنا. وفي يوم آخر.. ضرب سمير بالمطرقة الحديدية على أحد الأواني النحاسية فأصدر صوتاً قوياً.. ضخمته الرياح التي كانت تضرب الجدران الخشبية التي لم تكن عملية تثبيتها قد انتهت تماماً.. مما أدى إلى انهيارها وإصابة الأولاد برعب شديد.. فما كان من أحمد إلا أن صرخ.. ابتعدوا واحموا رؤوسكم.. صرخت سعاد بجزع: هل هو الزلزال..؟؟
رد أحمد: لا إنه طيش سمير.. المهم انتبهوا كي لا تصيب الأخشاب رؤوسكم..
وعندما أعادوا البناء وتثبيت الجدران قالت سعاد منفعلة: "يا إلهي صوت قوي بعض الشيء.. أرعبنا بمثل هذا الشكل..
ترى ماذا كان شعور سكان المدن المجاورة التي أصابعها الزلزال..؟
قالت نور: كان الله في عون الناجين وليرحم مَنْ مات منهم..
إن المصائب التي ألمت بهم تحطم القلوب.
تابعت سعاد: المناظر المرعبة التي تابعتها على شاشة التلفاز هي التي أوحت لي بفكرة البيوت الخشبية..
عندما شاهدت فرق الإنقاذ تحاول رفع أنقاض البيوت والأثاث من فوق رؤوس المصابين قلت في نفسي: لو كان هؤلاء المساكين في خيم أما كانت خسائرهم أقل..؟
أحمد: لهذا شجعناك على الفكرة.. وقمنا بتنفيذها.. فكل ما أصدرته وسائل الدفاع المدني من تعليمات وكل ما ردده المدرسون في المدارس عن طرائق الحماية والوقاية لم يقنعنا.. على حين أقنعتنا فكرتك.. تنهدت يومها رانية وهي تقول: المهم أن يقتنع أهلنا..؟
كان الطريق إلى بيوت سكان مدينة الأحلام طويلاً.. نظراً لأن الأولاد اختاروا موقعاً بعيداً عن الأبنية والأعمدة الكهربائية وعن الأنظار أيضاً لبناء بيوتهم إذ أرادوا العمل سرّياً.
وعندما وصلوا أخذوا بإقناع أسرهم.. لم يكن الأمر سهلاً لكن الجميع اقتنعوا بضرورة رؤية الإنجاز الذي أصرّ الأولاد على أنه هدية للأهل..
أم سعاد ضمت ابنتها إلى صدرها.. وقالت مزهوة بها: أنت رائعة.
أبوها.. قال: لم أخفيتم الأمر عنا؟.. كنتم ستحتاجون وقتاً أقصر وسنساعد بإنجاز أفضل..
أم نور.. قالت: عمل رائع.. متى أنجزتموه..؟
على حين صرخت أم رانية: ما هذا.. إنها أقنان دجاج..
أبو أحمد قال: إنها بعيدة عن الأعمدة الكهربائية.. هل تتصورون حياة بعيدة عن الكهرباء وما توفره من وسائل تعليم وترفيه.. واتصال..
انبرى أحمد للإيضاح: إن الأمر مؤقت.. ريثما تنتهي الأزمة.
إن الزلزال الذي حدث بالأمس في المدينة المجاورة كان على حدودنا والهزات الارتدادية تستمر زمناً ليس بالطويل سيستقر الأمر بعدها..
قال أبو رانية: قد يحدث أن نعيش دهراً في هذه البيوت السخيفة.. ولا يحدث زلزال.. من يستطيع..؟
أجابت رانية (بحماسة): اعتبروها رحلة كشافة.. وساعدونا في إجراء التجارب والاستطلاع على الطبيعة عن كثب..
زجرتها الأم بغضب: حياة كشافة..؟ أم حياة قطط ودجاج..؟؟ بعد جهد طويل.. استطاع بعض الأبناء إقناع أسرهم.. وكانت غالبية هذه الأسر فقيرة الحال أو متوسطة.. أمّا الأسر الثرية.. فكان من المُحال إقناعها.. فشل الجميع في إقناع والدة رانية.. ووالدها.. وعندما قالت نور بغضب: إن رانية ستعيش معنا.. لأنها تعبت في إنشاء هذه البيوت وكانت من أكثر المتحمسات للفكرة..
ردت الأم: لقد تسلت بما فيه الكفاية.. هناك أعمال أكثر أهمية في انتظارها..
قال الأب: إن كانت تريد قضاء بعض الوقت عند أسرة أبو أحمد فلا مانع عندي.
لكن رانية رفضت بعناد وهي تقول: إما معكم أو لا.. ولم تنفع توسلاتها ولا دموعها في إقناع أهلها بالسكن في هذه البيوت.
سمير الصغير كان أكثر حزماً منها.. قال: سأبقى مع صديقي مهند وأنام مع أسرة نور..
عادت رانية مع أسرتها الثرية إلى الفيلا الأنيقة التي تقطنها والحزن يثقّل صدرها الصغير.. ولم تفلح أية وسيلة من وسائل التسلية المتعددة في أن تعيد ابتسامتها إلى ثغرها..
لم تمضِ فترة وجيزة.. حتى استطاع
سكان البيوت الخشبية استنباط طرائق للتسلية والمرح تجمعهم..
كانت ألعاباً بدائية.. لكنها ممتعة.. ساعدتهم على تحمل ثقل الوقت وثقل تعليقات الأثرياء المزعجة.. وجعلتهم أكثر ارتباطاً بعضهم ببعض وبالأرض وما فيها وما عليها من حيوانات بسيطة ومتنوعة..
في ليلة مقمرة.. قال أبو أحمد: أين كانت غائبة عنا متعة السهر في ضوء القمر وأحاديث السمر مع الأهل والجوار..
أجاب أبو نور: انشغالنا بالحاسوب والتلفاز والهاتف وبالأرقام التي تأكل عمرنا وأيامنا.. غيّب عنا.. حتى إحساسنا بوجودنا..
وقالت أم أحمد: لولا الكارثة التي ألّمت بالجوار ما اكتشفنا متعة العلاقات الاجتماعية الإنسانية ومتعة التعايش مع الطبيعة.. كان الأطفال يتابعون مثل هذه الأحاديث بشعور مفعم بالرضى والفخر وهم متأكدون من أنهم أنجزوا عملاً عظيماً سواء وقع الزلزال.. أم لم يقع. وما كان يزعجهم سوى فكرة غياب صديقتهم رانية التي شاركتهم العمل ولم تشاركهم متعة العيش فيه..
في ليلة حالكة الظلام.. استفاق سكان البيوت الخشبية على ضجيج حركة الحيوانات الأرضية وعلى نباح غير مألوف للكلاب وطنين غريب للنحل..
قالت سعاد بذعر: هذا ما قرأناه عن مؤشرات الهزة الأرضية هيّا بسرعة.. ركض الجميع باتجاه الأهل والأصدقاء قاطنيّ البيوت الإسمنتية لتحذيرهم.. حتى يغادروا مساكنهم.
كان الزمن يركض بسرعة.. والأقدام تعجز عن مسابقته.. حاولت الأصوات العالية أن تسبق الأقدام لتوصل الإنذار إلى الجميع تنبه بعضهم للأمر.. لكن الغالبية.. كانت تغط بنوم هادئ تداعب أحلامها.. وبعضهم الآخر كان مشغولاً بمتابعة القنوات الفضائية والإنترنت وما تجودان به في الساعات الأخيرة من هزيع الليل. فلم تصل أصوات الإنذار إليه.
ثوانٍ وكانت البيوت دكاً مدكوكاً.. والضحايا تتناثر من كل حدب وصوب كانت الخسائر أقل بكثير من خسائر المدينة المجاورة. نتيجة جهد سكان البيوت الخشبية في توصيل الإنذار لأكبر قدر ممكن من البشر.
أخذ سمير وأصدقاؤه يبحثون بين الأنقاض عن أسرته.. لم يجدوا أثراً لرانية أو والدها.. لقد قضيّا تحت الأنقاض.
على حين بقيت والدتها ثلاثة أيام قبل أن يتمكن رجال الإنقاذ من إخراجها مصابة بشلل في العمود الفقري والكسور تملأ جسدها.
هدأ الحدث.. وقف الناجون على أبواب سكان البيوت الخشبية يسألون: ألديكم متسع من المكان لمنكوبيّ الزلزال..؟
كانت أم رانية تقول لأصدقائها: رانية شهيدة الزلزال.
وكان أصدقاؤها يرددون والدموع تملأ قلوبهم وأعينهم دون أن يُسمعوا الأم ودون أن يزيدوا في حزنها: إنها شهيدة الصلف والتكبر..
نور الصلبة، قالت: علينا أن نكف عن البكاء على رانية إنها مستمرة معنا في كل ما شاركت فيه من عمل إنها خالدة بفدائها وحبها لأهلها.. رانية مستمرة كذكرى عطرة للتضحية.. ذكرى تستحق التقدير وتستحق أن تكون مثلاً يُحتذى..
مَنْ يستحق البكاء فعلاً..؟؟ أمها..!!
إن زلزال الأرض انتهى.. لكن متى سينتهي الزلزال الذي سكن رأس أمها.. وهي تشاهدنا كل يوم أمامها.. أحياء ننعم بما أنجزناه..؟؟ 

تابع كل العرب وإبق على حتلنة من كل جديد: مجموعة تلجرام >> t.me/alarabemergency للإنضمام الى مجموعة الأخبار عبر واتساب >> bit.ly/3AG8ibK تابع كل العرب عبر انستجرام >> t.me/alarabemergency

مقالات متعلقة