ما هو الانا؟ما هي الذات؟
ما هو الأنا؟ ما هي الذات؟ ولماذا كانت الأنا جوهرا لا يقبل الانقسام. فيصبح الفرد فردين كما في حيوان "الأميبا" مثلاً؟ ولا يقبل الاتحاد مع غيره من الجواهر؟ فلا يصبح الاثنان واحداً، بسبب أن بين الجوهر وغيره من الجواهر حدودا صلبة، تمنع هذا الاتحاد وهذا الانصهار؟ وهل إن في هذا الجوهر من التماسك ما يمنعه من الانقسام على ذاته، إلا في حالات نادرة كالجنون؟
شيء في داخلي لا يرفض الموت أو العدم فقط، بل يرفض
الانقسام ايضاً. ويرفض الاتحاد مع غيري من الذوات!
شوبنهاور يقول بتماسك الأنا
يقول [شوبنهاور]،الفيلسوف الألماني المتشائم، ان للإنسان جوهرا غير قابل للفناء. وهذا الجوهر هو الارادة العمياء اللاواعية التي هي شظية من الإرادة الكونية. وهو قول يدل على ايمان شوبنهاور بتماسك الذات ضد الانقسام أو الاتحاد مع غيرها من الذوات. إننا نظل نفس الشيء، مهما حيينا، ولو متنا وعشنا مرة أخرى، فإننا نرغب أن نعود الى الحياة بشخصيتنا. وهذا يتضمن أن نعود ونتذكر ماضينا وتجاربنا، ونشعر مرة أخرى بكياننا. إنني استطيع أن أتعاطف مع صديقي، وأن أحبّ ابني، وحتى أن أضحي بحياتي أو سعادتي من أجله، ولكني أبداً لن أكون هو، سواء رغبت أم لم أرغب. شيء في داخلي إذن لا يرفض الموت أو العدم فقط، بل يرفض الانقسام ايضاً. ويرفض الاتحاد مع غيري من الذوات، مهما كانت قريبة مني. فهل هذه أنانية من جانبي؟ أو هي حقيقة كونية لا تقبل الجدل. فإذا كانت هذه مجرد أنانية لا تستند الى حقيقة موضوعية، فإننا يجب أن ننظر الى الأنا في ضوء سلبي. وربما كانت مصلحتنا ومصلحة الجميع هي في هدم حدود هذه الأنا، واخراجها من تقوقعها.
الجحيم هو الأنا
وبالفعل فإن فيلسوفا مثل [لودفيج كلاجيز] (1827- 1955- يرى أن الوجود الفردي هو محض خطأ. والرغبة في الخلود الفردي تبدو بالنسبة له "اساءة بالغة وتربصاً اجرامياً بحق الطبيعة». ويعتبر كلاجيز الأنا الواعية والمفكرة، أي الروح، العدو الأكبر للحياة. وظهورها هو الخطيئة الأصلية، حتى انه يقول: "إن الطرد من الجنة يتوافق مع ظهور الأنا». (كتاب الموت في الفكر الغربي ـ ص 224). وإذا كان [جان بول سارتر] الفيلسوف الوجودي، قد أقرّ بأن الجحيم هو الآخر أو الآخرون، فإن كلاجيز يقول بصراحة إن الجحيم هو الأنا. وفي حين يجد سارتر حجته في صعوبة أو استحالة التفاهم مع الآخرين والتماهي معهم، فإن كلاجيز قد يجد دليله أيضاً في نفس الإنسان، فهي أبعد ما تكون راضية عن نفسها، أو مقتنعة بما هي عليه .فهي أبداً تعيش في صراع يمزقها من الداخل. وفي حين تعيش النفس صراعاً خارجياً مع النفوس الأخرى، فإنها في الواقع تعيش صراعاً أعنف في داخلها. وهذا الصراع ينعكس في قلقها، وفي جهلها لحقيقتها، وفي عجزها عن التماسك، وعجزها عن الانصهار في غيرها. لقد قال سقراط للإنسان: "اعرف نفسك». وكان مدركاً لصعوبة ما يطلب. فكيف يعرف الإنسان نفسه، وهو منقسم على ذاته؟ وإذا كانت الأنانية هي الوقود الذي يسيّر النفس أو يميّزها عن غيرها، فكيف تعيش في هدوء؟ وكيف يكون لديها الوقت الكافي، أو الرغبة الحقة في معرفة نفسها! تخيلوا نهر الحياة يمرّ في أرض شاسعة، ويغمر أرضاً واسعة في طريقه. إن بعض الحفر على الأرض سوف تحتجز - كل منها - كمية صغيرة من المياه، بقدر حجمها، ثم تمنع هذه المياه المحجوزة من مواصلة طريقها، الى البحر الكبير. هكذا يمكن تصوير الذوات الفردية: إنها هذه الحفر التي احتجزت المياه، فتشبثت بها، وأعلنت استقلالها عن غيرها، وظنت، وهي البرك الحقيرة في طرف السهل العظيم، انها تضاهي أعظم المحيطات قوة. أما نهايتها فمعروفة.
الثابت والمتغير في الأنا
ولكن هل هذه الذات هي حقيقة أم وهم؟ لا نعرف. كل ما نعرفه أننا، وفي جميع مراحل عمرنا أو تقلباتنا، نحافظ على هذا التماسك، وعلى هذه الوحدة التي نسميها ذاتنا. يقول [زمل- 1885 -1910) : "ثمة شيء ما بداخلنا يظل دونما تغيير، فيما نكون نحن حكماء أو حمقى.. سعداء أو غارقين في اليأس. لكن هذا الشئ الغامض الذي يظل دونما تغيير، ليس شيئاً حقيقياً معيناً، وليس وهماً. إنه النقطة التي تشير لكل ما تعايشه الحياة، وهو أمر جوهري لكل نشاط حسي ولمعاناة الفرد. وهذه النقطة المرجعية التي نكتشفها بداخلنا، هي ما يمكن أن نتوقع استمراره وتحوله الى مكان آخر». ومع ذلك، فإن شيئاً في الذات يظلّ مستغلقاً على الفهم. وزمل الذي اقتبسنا منه للتو، لم يُعرِّف تماماً ما هو هذا الشيء في داخلنا، الذي يظل بدون تغيير. هل هو شعورنا بأنفسنا، أم هو شيء آخر يمد هذا الشعور بالقوة والاستمرار؟ ويمكن طرح السؤال بطريقة أبسط تحفظ لنا خط الرجعة دائماً: هل أنا نفس الشخص الذي كنته في العام الماضي؟ أو قبل عشرين أو ثلاثين سنة؟ ما هو الأساسي أو الثابت، وما هو المتغير فيّ؟ لقد تغير كل شيء فيّ تقريباً منذ ثلاثين سنة. وقد تغيّرت تغييراً عظيماً منذ ذلك التاريح. ولو قدّر لي أن أعيش نفسية أو عقلية أو مزاج ذلك الشخص الذي كنته قبل ثلاثين سنة، لما قلت اني سأجد نفسي هناك. ولو رآني اليوم شخص كان يعرفني قبل ثلاثين سنة، لأحس بالدهشة. فقد انقلبت في عينيه رأساً على عقب. اني لا أملك نفس الافكار. ولا أحب نفس الأشياء. وقد زال مني ذلك التمرد، حتى الموسيقى التي كنت أحبها في ذلك الزمن لا أطيق سماعها اليوم. وقس على ذلك طعامي، وميولي وعقائدي، وعلاقتي بالناس ، ورأيي في الحياة. كنتُ متديناً متزمتاً ولم أعد. وكنت وطنياً متزمتاً، أعتقد أن العرب ينبغي أن يعودوا الى سابق عهدهم وقوتهم، وان يحكموا الشعوب قاطبة، ويسترجعوا الأندلس. وأنا أرى الأمور اليوم بمنظار آخر. ويحق لي إذن أن أتساءل ماذا بقي لي من ذلك الشخص القديم الذي كنته؟
أنوات كثيرة لا أنا واحدة
يقول الفيزيائي [أبشلوم أليتسور] في كتابه [الزمان والوعي] "إذا افترضنا أن الفرق بين الماضي والحاضر والمستقبل هو مجرد وهم، فإننا نصل الى هذه النتيجة: ليس الواحد منا هو "أنا" واحدة بل مجموعة من "الأنوات". وفي كل لحظة من حياتي أكون أنا آخر ساكناً ومتجمداً مثل صورة منفردة في فيلم». ويأخذ [عدي تسيمح]، هذه الفكرة، ويتوسّع فيها قائلاً: "إذا افترضنا ان الزمن لا يجري، وأن أنواتنا جميعاً قائمة الواحد بجانب الآخر، كل واحد في لحظته من الولادة وحتى الموت، فلماذا ينبغي أن أقوم بأعمال لأساعد أناي في المستقبل؟ ذلك أن "أناي" المستقبلي ليس "أناي" الحاضر، إلا كأي شيء آخر. وكل ما هنالك انه يحمل ذكرياتي فقط. ولذلك فإن النتيجة التي أتوصل اليها هي أنه لا ينبغي ان تكون العلاقة بين "انواتي" علاقة وثيقة، أكثر من علاقتي مع الآخرين. ومن هنا عودة الى الحكمة القديمة احب لغيرك ما تحب لنفسك».
الشخصية كوعي بالذات
طبعاً بقي مني اسمي الذي يعرفني الناس به، وبقي تسجيلي في دائرة النفوس، ولم يتغير عنواني. فهل هذا هو أنا؟ إن اللغة تغالطني مرة أخرى. ما دامت تعبر عن جميع حالاتي وتقلباتي باسم واحد، وتسجيل واحد لا يتغير. وهي نفسها من يجعل لي ماضيا واحدا يخصّني، وتبقي لي أيضاً وعيي بذاتي، كشخص إذا ناداه الناس أو أشاروا اليه، عَرَف أن المقصود هو. والعجيب أنه في حين أن كل خلية في جسمي قد تغيّرت مرات عديدة، وربما لم يبق من جسمي القديم قبل ثلاثين سنة أي خلية، الا أن اسمي وتعريفي بقي هو هو لا يتغير. ألم يبق اليهودي يهوديا، لأنه شكل هوية واسما وعهدا قطعه على نفسه، حفظته له لغة وأنانية، أودعها في كتاب هو توراته، لا يتبدل ولا يتغير على مدي العصور؟ فمات الحثي، واندثر البابلي، وغاب الكنعاني، وبقي اليهودي، من دون تبديل ولا تغيير؟ أوليس هذا من أفاعيل اللغة التي تربط هويتنا الحاضرة بهويتنا الماضية عن طريق حفظ أسمائنا ووعينا بهويتنا؟
رقعة السروال كمثال
إن الرقعة في السروال لا تغيّر كثيراً في جوهر السروال، أو في تفرده. لكن كلما كثرت الرقع، تغيرت صفات السروال الأصلي. وصار هناك اختلاف عظيم بين ما كانه وما صار عليه، من حيث اللون، أو الاتساع أو الجدة. وحتى لو غيرنا قماش السروال كله، عن طريق زيادة الرقع، لبقي السروال هو نفسه باق في وعينا. ما دمنا نملك هذا الوعي وهذه الذكرى التي للسروال القديم. إنه نفس السروال الذي اشتريناه في سنة كذا، من محل كذا. إن "شخصية" السروال تستمد وجودها هنا، من وعينا به كذات متفردة، لها ماض وحاضر ومستقبل. أما السيارة العتيقة التي غيروا فيها خلال ثلاثين سنة من الاستعمال المستمر، ومن التنقل من يد الى يد، كل قطعة بها، وغيّروا رقمها ولونها، وزيّفوا تاريخ انتاجها، وعدد الكيلومترات التي قطعتها في تاريخها الطويل، فلا تظلّ هي نفس السيارة. وقد تمر بها ولا تعرف أنها نفس سيارتك القديمة، الا اذا بقي من يحفظ "تاريخ" السيارة و"شخصيتها" في جميع أطوارها المتغيرة، الى أن يقذفوا بها الى مزبلة السيارات. إننا ننظر الى الحيوان كشخص فاقد الذاكرة، أو ككيان لا يعي ذاته، إنه يملك الغرائز، والمشاعر، والأحاسيس، وربما يملك الأفكار، ومهما كان رأينا بكلبنا الذي نمتلكه، أو بمستواه العقلي، أو بما يدور في مخيلته، فإننا نرى فيه "وحدة" كيانية واحدة، مستقلة عن غيرها. إننا نضفي عليه هذه الوحدة الشخصية، كجزء من وعينا بذاتنا، ووعينا بما حولنا. فهل يملك هو هذا الوعي بوحدة شخصيته، في جميع أطوار حياته، بدون أن يملك اللغة التي تعبر عن هذه الوحدة وتعطيها اسما؟ وكوني أملك جسماً خاصاً بي، مستقلاً عن الأجسام الأخرى. وكون هذا الجسم يملك قوة الاستمرار في الزمان والمكان الى حين، كشيء مستقل، وكوني أملك وعياً يميز هذا الجسم ويميز استقلاله، ولغة أعبر فيها عن هذا الوعي، كلها أمور تساعد في تماسكي وتفردي وبلورة شخصيتي. ان قطرة الماء على الزجاج في يوم ماطر، لا تملك هذا التفرد، أو هذه الشخصية التي أملكها أنا أو كلبي. فهي سرعان ما سوف تختلط بقطرات الماء التي تسح الى جانبها فوق الزجاج. حتى أفكاري، لا تملك شخصية مستقلة. لأنها سرعان ما تنحلّ في الزمن، فهي لا تملك أجساداً، وقد تنتقل لتعشش في رأس شخص آخر غيري. وهي لا تملك قوة الاستمرار مستقلة في نفسها وعن غيرها.
بقاء الذات بعد الموت
وعلى أية حال، فليست مسألة تمييز ذاتي عن غيرها، هي المسألة التي تحتاج منا الى كل عناء التفكير هذا. ولكن المسألة الخطيرة هي تمييز هذه الذات، بعد أن يندثر الجسم الذي كان يضمها، والذي كان يملك قوة الاستمرار والاستقلال في آن. ولا أحد ينكر مثلاً ان علياً بن أبي طالب لا زال يملك حضوراً تاريخياً، ولا زالت أعماله وصفاته وأقواله تعيش بيننا، وان كان جسد الرجل مفقوداً لا يحظى بأية استمرارية. (في حين لا يملك الالاف من معاصريه هذا الحضور!) ولكن إذا كُنا نؤمن بتناسخ الأرواح، فإنه يمكن أن نعتقد أن علياً بن أبي طالب يعيش بيننا، بجسد آخر، وفي ذهنية وشخصية أخرى، وهو نفسه لا يعرف أنه عليّ. ما الذي يجمع إذن بين عليّ التاريخي الذي نقرأ تاريخه، وبين الشخص الذي يعيش مغموراً اليوم، دون أن نعرفه، أو يعرف نفسه (على أنه علي). لا شيء مما يمكن أن يكون من مقومات الذات الفردية. فلا الجسد مشترك، ولا الوعي بالذات (سواء منا أو مِنه)، ولا استمرارية تقوم بين عليّ القديم والجديد. فما الذي انتقل من عليّ القديم الى علي الجديد. هل هي روحه؟ ولكننا لا نعرف - للأسف - ما هي الروح. وما دام الجسد ليس هو الذات الفردية. وما دمت أستطيع أن أبقى أنا، حتى لو غيروا كل أعضائي. فإن الفيلسوف [ماكس شلر] يذهب الى أكثر من ذلك، ويتحدث عن بقاء الشخص حتى بعد زوال جسده. فالشخص أو الذات مستقلة عن جسمها، ولذلك لا مانع أن يبقى هذا الشخص بعد اختفاء جسده. ويتساءل شلر، كما تساءلنا، عن الأشياء التي تبقى من الشخص بعد أن يكف الجسد عن الوجود. ويرى شلر بـ "أن ما يبقى، هو ما كان قبل أن يكفّ الجسد عن الوجود. وهي الوحدة الفعلية لكل أفعاله. وكما أن أفعال هذا الشخص كانت مستقلة ومتجاوزة لوجوده الجسدي، كذلك فإن هذه الأفعال ستظل مستقلة ومتجاوزه للجسد بعد الموت". (الموت في الفكر الغربي ـ ص 228) ويُعدد شلر أفعال الفرد التي تميّزه عن غيره. وهي الادراك، التذكر، الارادة، التوقع، الامتداد، والاحساس. ويقول إن الفرد يتجاوز في أفعاله هذه حدود جسمه، أو الحدود التي يفرضها عليه جسمه. فالمرء يتذكر ما حدث في الماضي، على الرغم من أن جسمه قد انقطع عن الماضي، والمرء يتوقع ما سوف يحدث في المستقبل، أو في مكان لا يتواجد فيه جسمه. وهكذا يقر شلر ان كمية محتويات هذه الأفعال التي عددناها، تفوق كمية محتويات الحالات الجسمية للشخص الواحد. ويقول شلر إنه لا مانع أن تكون الذات باقية بعد الموت، ما دامت الشروط الجوهرية لبقاء هذه الذات لا تزال متوفرة حتى بعد الموت. ما هي هذه الشروط الجوهرية، انها الادراك، والتذكر، والارادة، وكلها غير مرتبطة ارتباطاً حتمياً بالجسد. وان صحّ أن هذه الذات تبقى بعد الموت، فإنه لا مانع أيضاً أن جسماً ما سيواصل الانتماء الى هذه الذات. ومن الواضح هنا أن شلر لا يستعمل الروح برهاناً لبقاء الفرد بعد الموت. فهو لا يقول إن الروح هي التي تبقى بعد موت الجسد بانفصالها عنه. بل هي الذات التي لها مقدّمات نعرفها من خلال حياتنا العادية، كالتذكر والارادة.
المطابقة بين الذات والجسم
ويقول أيضاً ، انه إذا كان الشخص بعد الموت تصعب رؤيته وادراكه، فإن ذلك لا يثبت شيئاً ضد وجوده. ذلك انه حتى اثناء حياته، لم يكن قابلاً للرؤية ولا الادراك في كل وقت. وحتى ما كان يمكن رؤيته من هذا الشخص أثناء حياته لا تُشكل جوهر هذا الشخص أو كل وجوده. وان فهم أفعال الشخص حتى أثناء حياته، والتعرف على صفاته، لم تكن مرتبطة برؤيتنا له، أو بادراكنا لخصائص أعضائه الجسدية. (الموت في الفكر الغربي ـ ص 032). ويمكن تعلّم درس هام من أقوال شلر، أن جسد الإنسان ليس هو الإنسان، وأن الناس يملكون في الحقيقة نظرة خاطئة عن الذات، عندما يُطابقون بين الذات وبين الجسم. فإذا اختفى الجسم ظن الناس أن الذات قد انهارت أيضاً، وغرقت في العدم. تماماً كما نعتقد أن صديقنا الذي نذهب لزيارته غير موجود في البيت ما دامت سيارته غير واقفة في ساحة بيته. فلقد تعودنا أن نطابق بين الشخص وبين سيارته. حتى أننا لتأخذنا الدهشة إذ نراه راجلاً في مكان بعيد عن بيته، أو سائقاً سيارة أخرى غير سيارته. وبالفعل فإننا كثيراً ما نستهين بالرجل الذي لا يعجبنا شكله. وقد نغيّر رأينا ونظرتنا لشخص سمعنا عنه أو قرأنا له، بعد أن نراه أمامنا. والرجال يظنون أن المرأة غير الجميلة، لا تستحق حبهم، أو العيش معهم، وفي كل هذه الأمثلة يطابق الناس بين الشخص وجسمه. والذين تعرفوا على شخص من خلال مكالمات تليفون استمرت فترة طويلة، ثم رأوه بعد ذلك، شعروا بالفرق الهائل، بين الشخص الذي عرفوه دون رؤيته، والشخص الذي رأوه ماثلاً أمامهم. وثمة تأكيد آخر، فإن كثيرين من الاشخاص كـ [أفلاطون] و[أخيل] و[خالد بن الوليد] لا يزالون، يعيشون بيننا بطريقة ما، على الرغم من أننا لا نراهم ولا نكلمهم. وهم بالنسبة لنا لا زالوا يحتفظون بشخصياتهم كذوات مستقلة، مع أن هذا الوجود الذي يملكونه ليس الوجود المثالي الذي نرغب أن نُحصله أو نحتفظ به بعد موتهم. فتفرد [يوليوس قيصر] وبقاؤه كذات متميزة بيننا، انما يكتسبها من وعينا به، لا من وعيه هو بذاته. تماماً كما تمتلك الصورة المعلقة على حائطنا تفرّدها وذاتها، من وعينا نحن بها، وليس من وعيها - هي - بذاتها. ويملك بعض الناس حضوراً أكثر مما يملكه أناس آخرون. وشيء من قوّة هذا الحضور نابع من تركيبة أجسامهم أو من حركاتهم. وأذكر انني كنت أقول أحيانا عن طريق المداعبة لبعض الأشخاص، أنني لست أنا الشخص القائم بينكم، أي الذي ترونه، أو تكلمونه. فإن لي جانباً من ذاتي أو شخصيتي لا يمكن أن تروه أو تلمسوه، من خلال مقابلة أو مواجهة كلامية.
هيوم يكفر بالذات
ولكن الفيسوف الإنجليزي [هيوم] يدمّر مفهوم "الذات" بتدميره لما يُسمى بالجوهر. إذ ان الفلاسفة قبل هيوم، تعودوا أن يتحدثوا عن الذات البشرية المستقلة، أو النفس كجوهر. وبرأيه ليس هناك ما يسمى بالذات: "فكلّما توغلت داخل ما ادعوه بذاتي، أعثر دائماً على هذا الادراك الحسي أو ذاك.. ولكنني لا أعثر أبداً على ذاتي، في أي وقت بلا ادراك حسي». وحيث ان الذات لا يمكن ادراكها حسياً، فإننا فيما يقول، ليست لدينا فكرة عنها. "إننا نعتقد أن هناك ذاتاً. لأننا بحكم العادة نربط احساساتنا وانطباعاتنا بالشخص نفسه. وهكذا نشكّل مفهوما كاملا غير قابل للتغيير لهذه الانطباعات. وما ندعوة "انا" ونعتز به، ونتوقع ان يواصل الحياة، لا يُعد ان يكون حزمة من الادراكات الحسية». (الموت في الفكر الغربي ـ ص 148
فصل من كتاب "الخلود .. القضية المنسية"
تابع كل العرب وإبق على حتلنة من كل جديد: مجموعة تلجرام >> t.me/alarabemergency للإنضمام الى مجموعة الأخبار عبر واتساب >> bit.ly/3AG8ibK تابع كل العرب عبر انستجرام >> t.me/alarabemergency
مقالات متعلقة
| المدينة | البلد | درجة °c | الوصف | الشعور كأنه (°C) | الأدنى / الأقصى | الرطوبة (%) | الرياح (كم/س) | الشروق | الغروب |
|---|