كان ما سوف يكون ..
كان أسبوعاً من الأرض
ويوماً للغزاة
ولأمي أن تقول الآن: آه.
هذا وجه من وجوه راشد حسين كما يقدمه محمود درويش في واحدة من اكثر مراثي الشعر العربي الحديث قوة في العاطفة والوصف والمجاز والتدفق الغنائي المنضبط، والانثيال الصوري الخلاق.. والبعد عن الرثاء. قلت، مرة، هذا الكلام لمحمود درويش على شرفة شقته الباريسية، فارتبك قليلا من اعتراف شاعر ظنه مناضلا نثريا وقال: لا تنس قصيدتك عن ميشيل النمري!، ولكن لباقة محمود ومجاملته ضيفه، الذي يزوره للمرة الأولى، لم تلعبا برأس الضيف كثيرا ولم تقرّبا قصيدته من ذلك العمل الشعري الإنشادي الفذ.
لراشد حسين، الراحل قبل ثلاثين عاما، اكثر من صورة، اكثر من قصيدة، واكثر من ذكرى في عروق الارض التي كان، ذات يوم، صوتها الجارح، لكن صورته في ذهني تدين الى درويش، فقد عرفت راشد حسين، الذي قضى احتراقا بسيجارته في نيويورك، عبر محمود درويش. لأسباب جمالية واسلوبية كان درويش هو واجهة الشعر الفلسطيني الذي يلفت نظر باحث عن القصيدة الجديدة، مثلي، اكثر من اي شاعر آخر من شعراء المقاومة الفلسطينية. كان محمود درويش في ذروة تحولاته الجمالية والاسلوبية وبحثه عن معادلة فكرية تزاوج ما هو وطني بما هو انساني، ويقترح للقضية الكبيرة قصيدة كبيرة، وتلك صيغة اخذت تنتزع لها ارضا في الشعر الفلسطيني الذي كان يدور معظمه، آنذاك، في التصور المباشر لفكرة المقاومة، وراحت تتسع، هذه الرقعة، مع تعرض شعر درويش الى التيارات الفنية والاسلوبية المحتدمة في الشعرية العربية بعد مغادرته الارض المحتلة وذهابه، على نحو خاص، الى بيروت، ورفضه الاطمئنان الى التلقي الواسع لقصيدته بصفته معيارا لصواب الوجهة.
في بيروت ستكون تحولات درويش الفنية متسارعة، وهناك سيكتب معظم قصائده المطولة ذات النبرة الملحمية، وفي واحدة منها سأكتشف راشد حسين. من رثاء درويش لرفيقه الراحل الى امريكا، والراحل فيها بسيجارة مشتعلة لم تفارقه، ستظل صورة راشد حسين منطبعة في ذهني على هذا النحو الى الابد:
في الشارع الخامس حياني
بكى، مالَ على السور الزجاجيّ
ولا صفصافَ في نيويوك،
أبكاني
أعاد الماء للنهر
شربنا قهوة ثم افترقنا في الثواني.
منذ عشرين سنة وأنا أعرفه في الأربعين
وطولاً كنشيد ساحلي وحزين
كان يأتينا كسيف من نبيذ
كان يمضي كنهايات صلاه
كان يرمي شعره في مطعم خريستو
وعكا كلها تصحو من النوم وتمشي في المياه
كان أسبوعاً من الأرض
ويوماً للغزاه
ولأمي أن تقول الآن: آه.
أستطيع، طبعاً، أن أمضي في استظهار هذه القصيدة حتى نهايتها، فهي، من بين قصائد قليلة أخرى، نجت من آفة المحو التي تقوض ذاكرتي، وقد تفاجأ محمود درويش، ونحن نلتقي ثانية، ولكن إلى مائدة عشاء في لندن هذه المرة، بصوتي الذي راح يتلو، بحشرجة، ثلاثة أرباع قصيدته التي كان قد مضى على كتابتها أكثر من عشرين عاماً. لم تكن تلك ممارسة لقوة الذاكرة بقدر ما كانت جهراً ملتذاً بقوة الشعر، بقدرته على خلق ألف صورة لتفصيل واحد. كانت القصيدة أقوى من وحش المحو والنسيان الذي يسطله الزمن على الذاكرة.
هناك، بالتأكيد، أكثر من صورة لراشد حسين في أذهان مجايليه، والقادمين بعدهم، في فلسطين المحتلة عام ثمانية وأربعين، وقد لا تكون هذه الصور مرتبطة بمحمود درويش، إذ إن راشد حسين كان يكبر درويش بنحو ست سنين وبدا، لكثيرين، رائد ما سمي شعر المقاومة ولكن صورته مرتبطة في ذهني بدرويش وبقصيدته كان ما سوف يكون.
قرأت، لاحقا، مختارات من شعره طبعت في بيروت لمناسبة وفاته الصاعقة، ومن بين القصائد التي قرأتها في تلك الفترة أتذكر هذه القصيدة - النبوءة التي عنوانها ضد ويقول فيها:
ضد أن يجرح ثوار بلادي سنبله
ضد أن يحمل طفل أي طفل
قنبله
ضد أن تدرس أختي عضلات البندقية
ضد ما شئتم..ولكن
ما الذي يصنع حتى نبيأو نبية
حينما تشرب عينيه وعينيها
خيول القتلة؟.
ففي هذه القصيدة السابقة على تواريخ لاحقة ستسطرها الحياة التراجيدية للفلسطينيين يرفض راشد حسين، كما يشدد على ذلك بوضوح ومباشرة، أن يصبح طفل بطلاً في العاشرة، فليس من الطبيعي، في أي مكان آخر في العالم، أن يغادر الطفل أرضَ البراءة، او ارض المشاغل الطبيعية، كي يتوج على عرش بطولة باهظة.
ما الذي يدفع طفلاً إلى ذلك؟
سنرى بعد عقود على كتابة راشد حسين هذه القصيدة اطفالا مثل محمد الدرة الذي يكاد يُنسى الآن من فرط تعاقب امثاله من الابطال غير الضروريين على المشهد الدامي نفسه) ان يكونوا ابطالا في العاشرة، اطفالا يصعدون الى البطولة، غير المطلوبة لو لم يكونوا فلسطينيين، بالاحجار والاغصان والديناميت والاجساد التي لم تصل البلوغ تاركين، الى الابد، طفولة لم تعش وحياة لم تعرف من اعطيات الحياة سوى ذلك السجن المكهرب المسمى فلسطين.
لا يمكن إعادة التاريخ الى الوراء، ولا تغيير مسار الاحداث التي أتمت دورتها، ولكن يخطر لي وانا اكتب هذه الكلمات في الذكرى الثلاثين لرحيل هذا الشاعر ذي النبرة الجارحة انه لو امتلك وعي درويش الجمالي وانفتح على تجارب الشعر العربي الحديث وانخرط في تياراته المتصارعة.. والاهم لو انه عاش اطول، لكنا حصلنا على شاعر كان يمكن له أن يسهم، ليس في تعميق البعد الانساني والجمالي للتراجيديا الفلسطينية، فقط، بل في تطور القصيدة العربية الحديثة كذلك.
لكن هذا غير ممكن. ما حصل قد حصل ولا مجال لتغييره، لذلك يبقى راشد حسين في ذاكرة فترته الشعرية وسجلاتها بوصفه الصوت الشعري الجارح والمقاوم، وتبقى قصيدة كان ما سوف يكون تذكرني بذلك الذي قال لرفيقه عندما التقيا في نيويورك بعد وقت طويل من فراقهما:
ليتني كنت طليقاً في سجون الناصرة!
* شاعر أردني مقيم في لندن
تابع كل العرب وإبق على حتلنة من كل جديد: مجموعة تلجرام >> t.me/alarabemergency للإنضمام الى مجموعة الأخبار عبر واتساب >> bit.ly/3AG8ibK تابع كل العرب عبر انستجرام >> t.me/alarabemergency
مقالات متعلقة
| المدينة | البلد | درجة °c | الوصف | الشعور كأنه (°C) | الأدنى / الأقصى | الرطوبة (%) | الرياح (كم/س) | الشروق | الغروب |
|---|