لم يكن أحد يتوقع أن يخرج اللقاء الأول بين دونالد ترامب وبنيامين نتنياهو في مار‑أ‑لاجو عن الإطار الاستعراضي الذي يفضّله الطرفان، لكن ما شهدناه في الساعات الأولى تجاوز حتى هذه التوقعات. فالمشهد بدا أقرب إلى منصة انتخابية منه إلى اجتماع سياسي بين رئيس أمريكي ورئيس حكومة إسرائيلية. نتنياهو خرج من اللقاء، كما وصفت بعض التحليلات، بسلة ممتلئة من الهدايا السياسية التي يحتاجها في معركته الانتخابية المقبلة: مديح شخصي، دعم مطلق، وتلميحات محسوبة حول ملفات غزة وإيران وحتى ملف العفو. كل ذلك صُمّم ليُظهره أمام جمهوره الداخلي كزعيم يحظى بدعم دولي غير محدود، في وقت تتزايد فيه التحديات داخل الكنيست وداخل ائتلافه نفسه.
لكن خلف هذا البريق الإعلامي يبرز سؤال جوهري حول غياب أي تقدم فعلي في الملفات الأكثر إلحاحًا، وعلى رأسها غزة. فحتى الآن، لا توجد مؤشرات على أي اختراق حقيقي، رغم أن هذا الملف هو الأكثر تأثيرًا على مستقبل المنطقة. ما رأيناه في العلن هو خطاب انتخابي متناغم، لا أكثر، بينما السياسة الحقيقية تجري في أماكن أخرى تمامًا.
ترامب، كما في مرات سابقة، اختار أن يلعب دور الكامبينر المركزي لنتنياهو. لغة الجسد، نبرة الصوت، وطريقة تقديم نتنياهو أمام الكاميرات، كلها بدت مصممة لتمنح الأخير دفعة انتخابية يحتاجها بشدة. لكن هذا الدور لا يلغي حقيقة أن ترامب، رغم خطابه الشعبوي، يستجيب لحسابات إقليمية ودولية معقدة، وأن ما يظهر أمام الكاميرات ليس سوى الجزء السطحي من المشهد.
حتى لحظة كتابة هذا المقال، لم نسمع شيئًا عمّا دار في الغرف المغلقة. وهذا الصمت ليس تفصيلاً عابرًا، بل هو جوهر القصة. فالمفاوضات الحقيقية حول غزة لا تُدار أمام الصحافة، بل في تلك الجلسات الضيقة التي يجلس فيها المفاوضون الأمريكيون والإسرائيليون مع ملفات حساسة، بينما تتداخل فيها تأثيرات إقليمية لا يمكن تجاهلها. الدور المصري يظل الأكثر ثباتًا، فالقاهرة تعرف أن أي ترتيبات مستقبلية — سواء تتعلق بالمعابر أو إعادة الإعمار أو الترتيبات الأمنية — لا يمكن أن تمر دون موافقتها. أما قطر، فتمسك بخيوط حساسة تتعلق بالتمويل وبقنوات الاتصال غير المباشرة، ما يجعل تجاهلها مستحيلاً في أي مسار تفاوضي. وتركيا، التي استعادت حضورها في الملف الفلسطيني، تمتلك نفوذًا سياسيًا وشعبيًا يجعلها لاعبًا لا يمكن إبعاده عن الطاولة، خصوصًا في ظل رغبة ترامب في الحفاظ على علاقة متوازنة مع الرئيس التركي.
هذه الأدوار الثلاثة — المصري والقطري والتركي — تشكل مثلث الضغط الحقيقي على ترامب، وتنعكس بالضرورة على ما يُناقش خلف الأبواب المغلقة، بعيدًا عن عدسات الإعلام. فبينما يتبادل ترامب ونتنياهو الابتسامات أمام الكاميرات، تُطرح في تلك الغرف الأسئلة التي ستحدد شكل المرحلة المقبلة: من سيحكم غزة، وكيف ستُدار المرحلة الانتقالية، وما شكل الترتيبات الأمنية، ومن يضمن التنفيذ.
ما رأيناه في الساعات الأولى من اللقاء هو استعراض سياسي يخدم نتنياهو انتخابيًا ويمنح ترامب فرصة للظهور بمظهر اللاعب الدولي القادر على التأثير. لكن ما لم نره — وربما لن نراه قريبًا — هو جوهر المفاوضات المتعلقة بغزة. وحتى تتضح صورة ما يجري في تلك الغرف، سيبقى ما نراه في العلن مجرد مسرح سياسي، بينما تُكتب القرارات الحقيقية في الظل.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com
تابع كل العرب وإبق على حتلنة من كل جديد: مجموعة تلجرام >> t.me/alarabemergency للإنضمام الى مجموعة الأخبار عبر واتساب >> bit.ly/3AG8ibK تابع كل العرب عبر انستجرام >> t.me/alarabemergency