نحتفل بالميلاد… أم نؤدّي واجبه

أ‌.    سامي
نُشر: 24/12/25 22:56

حين أعود بذاكرتي إلى صباحات عيد الميلاد في طفولتي، لا تلمع في ذهني صورة الشجرة المُزدانة بالزينة البراقة، ولا أضواؤها الحمراء الزاهية؛ بل تطفو أولًا رائحة معجون الحلاقة الخاص بوالدي. أذكر ألوان ربطة عنقه العريضة وهي تلتف حول رقبته النحيلة، وتتدلّى فوق بطنه الممتلئ. كان يتنقّل في البيت ببدلته الأبهى، تلك التي احتفظ بها لكل المناسبات؛ فكانت شاهدة على الأعراس، والجنازات، وبهجة عيد الميلاد.

كان والدي رجلًا مواظبًا على ارتياد الكنيسة كل يوم أحد صباحًا، ولم تفته خدمة كنسية قط؛ وكانت حياته تسير على إيقاع التقويم الليتورجي. أمّا عيد الميلاد، فكان ذروته الحقيقية. وحين كان يُهيّئ العائلة لهذا اليوم الاستثنائي، كان يندفع بالترنيم، فينتشر صوته الجميل في أرجاء البيت، ويتردّد صداه بين الجدران. كان يؤمن أن تكريم يوم الميلاد يعني أن نقف مرفوعي الهامة، ونرنّم بأعلى صوت، ونمضي بخطوات أسرع؛ فهذا اليوم لا يشبه في بهجته سائر الأيام. وفي غمرة شغفه بإيصالنا إلى الكنيسة، ثمّ إلى السيارات التي تحملنا في جولاتنا وزياراتنا الاجتماعية إلى منازل الأقارب والأصدقاء، كان والدي يجسّد روح التفاني التي ينبض بها قلب مجتمعنا الصغير: رجل ترتسم على شفتيه الصلاة، ويحمل على كتفيه ثقل التقاليد وعراقتها.

لكن ما إن تتلاشى آخر أصداء كلمة "آمين" في أنفاس الشتاء الباردة، حتى تبدأ تلك النشوة الروحية الصباحية بالتحوّل؛ إذ سرعان ما تنحسر الترانيم المقدّسة لتفسح المجال لضجيج الترتيبات العملية والالتزامات الاجتماعية المسائية. وهكذا، فإن بهجة الميلاد التي صدحت بوضوح في صوت والدي، سرعان ما تتخذ شكل أداء اجتماعي رتيب، ضمن جدول صارم من المجاملات والواجبات.

في يوم عيد الميلاد، تعبق أرجاء البيت برائحة الشواء المختلطة ببقايا بخور قدّاس منتصف الليل، وتضفي أضواء الشجرة وهجًا يوحي بأن كل شيء على ما يرام. ففي مجتمعنا المسيحي العربي، يُعدّ عيد الميلاد لوحة فنية في كرم الضيافة، بل مسرحًا كبيرًا ساطع الأضواء. غير أنّه، ومع رنين الجرس للمرة العاشرة، مُعلنًا قدوم موجة جديدة من الضيوف الذين ينبغي استقبالهم بذات الدفء المُتكلّف، ينسلّ سؤال خافت من خلف الترانيم: متى تحوّل عيد السلام إلى ماراثون للصبر والتحمّل؟ بالنسبة لكثير من المسيحيين العرب، غدت بهجة الميلاد عباءة ثقيلة، نُسجت خيوطها من الواجبات الاجتماعية، وسطوة الوجاهة، والسعي الحثيث وراء صورة مثالية أمام الناس.

نادرًا ما يكون عيد الميلاد وقتًا للسكينة الروحية؛ بل يغدو رحلة محمومة من الزيارات العائلية المتواصلة. ننتقل من بيت إلى آخر في دوّامة من التحيات الرسمية والمعايدات المكرّرة، ونُسقط الأسماء من قائمة الالتزامات الذهنية، حرصًا على ألّا تُجرح مشاعر قريب، أو يُخدش كبرياء مسنّ. فكل زيارة هي "واجب"—دَيْن اجتماعي لا بدّ من سداده للحفاظ على نسيجنا المجتمعي. نجد أنفسنا نحتسب الدقائق في سباق مع الزمن؛ فإذا أطلنا الجلوس أمام أطباق الشوكولاتة والضيافة في مجلس ما، خاطرنا بكسر خاطر المضيف التالي. وهكذا تضيع روحانية الميلاد في دهاليز التنقّلات؛ فنكتفي بالجلوس على أطراف الأرائك المخملية متأهّبين، نهزّ رؤوسنا لقصص حفظناها عن ظهر قلب، بينما تسبقنا عقولنا إلى وجهتنا التالية. لقد غدا التقارب الصادق ضحية نُقدّمها قربانًا على مذبح المظاهر الاجتماعية.

ثمّة أيضًا ذلك الإنهاك العميق الذي يخلّفه القناع الاجتماعي؛ فخلال الأعياد يتحوّل البيت المسيحي إلى مسرح للوجاهة. فبعد أسابيع من التحضير، نرزح تحت ضغط الحاجة الملحّة للظهور بمظهر النجاح، بغضّ النظر عمّا يدور فعليًا خلف الستائر المغلقة. أمّا بالنسبة للشباب، فتتحوّل الزيارة إلى مجلس تحقيق؛ فبين رشفة قهوة وأخرى، يواجه الشاب فرقة إعدام احتفالية من الأقارب، تمطره بوابل من الأسئلة: "متى سنراك عريسًا؟"، "لماذا ابن عمك أنجح منك؟"، "يجب أن نفرح بك السنة القادمة!" يبتسم الشاب ويكتفي بكلمة "إن شاء الله" المهذّبة، لكنه في داخله يشعر أن العيد ليس تجديدًا للروح، بقدر ما هو كشف حساب سنوي للأداء أمام الآخرين.

وخلف ضحكات العيد ورنين الكؤوس، تكمن قاعدة صلبة من الجهود غير المرئية. فلا بدّ لنا من تحية جنديات المطبخ—تلك الأمهات والجدّات اللواتي ينتقلن من خشوع العيد وزهده إلى لظى المواقد، ساهرات على أن تكون أطباق "الكبّة" و"الأرز المفلفل" واللحوم المشوية بـ"وجه أبيض" يليق بسمعة العائلة. ولا يفوتنا تقدير الآباء وهم يصارعون التكاليف الباهظة للهدايا والضيافة، في ظل اقتصاد لا يرحم ولا يقيم وزنًا للتقاليد. ففي مجتمعنا نعتبر الكرم مبعث فخرنا، لكننا نادرًا ما نتحدّث عن الثمن الباهظ الذي يدفعه المعيلون. لقد أرسينا معايير للاحتفال من البذخ والترف ما يجعل العائلة تُستنزف حتى الرمق الأخير، فتفقد القدرة على سماع الصوت الخافت الوديع للعيد الذي بذلوا كل هذا الجهد لإحيائه.

لعلّ الوقت قد حان لنسأل أنفسنا: لأجل مَن نُقيم هذه التقاليد ونتمسّك بها؟ فإذا كانت أجراس الكنيسة في عيد الميلاد تدعونا إلى السلام، بينما لا يجلب لنا رنين أجراس أبواب بيوتنا سوى القلق والتوتّر، أفلا نكون قد أضعنا البركة التي نزعم البحث عنها؟ إن جوهر إيماننا—بما يحمله من دفء، وتكاتف، وميلاد متواضع للرجاء—لا يتطلّب مائدة مثالية، ولا جدولًا مُضنيًا من الزيارات الإجبارية. يمكننا أن نُكرم كبارنا ونعتزّ بتراثنا دون أن نُضحّي بسكينتنا النفسية. فمن خلال وضع حدود بسيطة، وإعطاء الأولوية للحظات الصدق والهدوء على حساب المظاهر الاستعراضية، يمكننا أن نعيد الميلاد إلى أصله—ملاذًا للطمأنينة والسكينة—بدل أن يكون مصدرًا للإرهاق والضغوط.

تابع كل العرب وإبق على حتلنة من كل جديد: مجموعة تلجرام >> t.me/alarabemergency للإنضمام الى مجموعة الأخبار عبر واتساب >> bit.ly/3AG8ibK تابع كل العرب عبر انستجرام >> t.me/alarabemergency

مقالات متعلقة