نتنياهو يناور بإيران: كيف يُصنَعُ تهديدٌ وجوديّ لخدمة معركة انتخابية؟

محمّد دراوشة
نُشر: 23/12/25 12:48

في الأسابيع الأخيرة، عاد الملف الإيراني ليتصدّر الخطاب السياسي في إسرائيل، عبر رسائل تهديد علنية وتصعيد لفظي محسوب من قبل بنيامين نتنياهو، الذي توعّد بأن “كل عمل إيراني سيُجابَه بردّ قاسٍ جدًا”. هذا الخطاب لا يمكن فصله عن أزماته الداخلية المتراكمة، ولا عن سعيه الدائم لتحويل الخوف إلى رصيد انتخابي، وجرّ الولايات المتحدة إلى مغامرة جديدة في الشرق الأوسط يدفع ثمنها الآخرون. فكلما ضاق الخناق السياسي عليه، عاد إلى استخدام إيران كمنصة لإعادة إنتاج ذاته كقائد “لا غنى عنه”.

يعيد نتنياهو اليوم إنتاج الرواية ذاتها التي استخدمها مرارًا: إيران كتهديد وجودي داهم لا يحتمل الانتظار. يكرر أن “أحدًا لا يريد مواجهة، لكن إسرائيل لن تتردد في الرد”، في صياغة تجمع بين التهويل والتهيئة النفسية للجمهور. يقوم هذا الأسلوب على تضخيم مؤشرات عسكرية حقيقية أو جزئية، مثل المناورات الإيرانية أو تطوير قدرات صاروخية، وتحويلها إلى لحظة “حسم تاريخي” تستدعي التفافًا شعبيًا حوله وتفهّمًا أميركيًا غير مشروط.

في خلفية هذا الخطاب، يقف تاريخ طويل من محاولاته السابقة لدفع نحو ضربة عسكرية في إيران، محاولات اصطدمت بتحفظات قادة الجيش والاستخبارات الذين شككوا في دوافعه وفي مدى شفافيته. هؤلاء القادة رأوا في كثير من الأحيان أن نتنياهو يوظّف الخطر الإيراني سياسيًا أكثر مما يتعامل معه كملف أمني استراتيجي.

تتحدث تقارير إسرائيلية عديدة عن أزمة ثقة غير مسبوقة بين نتنياهو وبين كبار قادة المؤسسة الأمنية، إلى حدّ أن بعضهم يقرّ في جلسات مغلقة بأنهم لا يصدّقون أي كلمة يقولها، ويخشون أن يكون مدفوعًا باعتبارات سياسية وشخصية أكثر من كونه ملتزمًا بتقدير مهني ومتوازن للمخاطر. هذا الشرخ يتغذى من تاريخ من الشكوك المتبادلة: نتنياهو يتهم جنرالات وقيادات استخبارية بتسريب خططه أو بإبطاء الاندفاع نحو عمل عسكري، وهم بدورهم يتهمونه بعدم إطلاعهم على الصورة الكاملة، وبإدارة مشاورات حقيقية في دوائر مصغّرة وخفية عن الكابنيت الأمني – السياسي الذي يُفترض أن يكون عنوان اتخاذ القرار في قضايا الحرب والسلام.

تحذيرات الأصوات الإقليمية، وفي مقدمتها رجب طيب أردوغان، لا تقف عند حدود الإدانة الأخلاقية، بل ترسم صورة قاتمة لسلوك يعتبره كثيرون خارجًا عن القانون الدولي ومهدِّدًا للأمن الجماعي. فقد وصف أردوغان الضربات الإسرائيلية على إيران بأنها “استفزاز واضح” و“انتهاك صارخ للقانون الدولي”، محذّرًا من أن “السلوك المتهوّر وغير القانوني لنتنياهو يجرّ المنطقة – والعالم – نحو كارثة”. هذه اللغة لا تستهدف إسرائيل ككيان فحسب، بل تضع شخص نتنياهو في قلب المشكلة، بوصفه “تهديدًا خطيرًا للأمن الإقليمي” ينتهج “إرهاب دولة” وازدراءً ممنهجًا للمعايير والنظم الدولية.

هذا التحذير لا يأتي من فراغ، بل من تراكم قراءة إقليمية لسلوك سياسي يقدّم المصلحة الشخصية والحسابات الانتخابية على أي حساب إستراتيجي متزن لموازين القوى وتعقيدات الجغرافيا السياسية. فحين يختار نتنياهو توقيت التصعيد مع إيران في ذروة الضغط الدولي عليه بسبب غزة، وفي لحظة تتكثف فيها المفاوضات النووية مع طهران، يبدو وكأنه يوظّف التوتر الإقليمي للهروب إلى الأمام، لا لحماية استقرار المنطقة. هنا تحديدًا تكمن خطورة المشهد: زعيم مستعد لأن يغامر بإشعال حريق إقليمي واسع، فقط ليعيد تعريف نفسه أمام ناخبيه كصاحب القبضة القوية، حتى لو كان الثمن أن تتحول حدود الشرق الأوسط كلها إلى حافة حرب مفتوحة.

لغة “الرد القاسي جدًا” ليست موجّهة لإيران وحدها؛ بل تُسمَع في واشنطن أيضًا كتذكير بأن إسرائيل مستعدة للذهاب بعيدًا في لعبة حافة الهاوية. في حال اندلاع مواجهة واسعة، سيُطرح على الإدارة الأميركية السؤال القديم الجديد: هل تترك حليفها في الميدان أم تمنحه غطاءً سياسيًا وعسكريًا كاملًا، حتى إن كان هو من أشعل النار؟

بهذه الطريقة، يحوّل نتنياهو التهديد الإيراني إلى أداة ضغط على الولايات المتحدة كي تتماهى مع خياراته، بدل أن تضبطها أو تكبحها. إنه يضع واشنطن أمام معادلة “إما أن تكونوا معنا بالكامل، أو تتحملوا مسؤولية الفوضى”.

في الداخل الإسرائيلي، يعمل نتنياهو على إعادة تشكيل جدول الأعمال العام: من النقاش حول الفشل في غزة والانقسام الداخلي والملفات القضائية، إلى سؤال واحد: من القادر على مواجهة “الخطر الإيراني”؟ كلما تعمّقت المخاوف من حرب إقليمية، ازدادت سهولة تقديمه لنفسه كـ“زعيم وحيد مجرَّب”، في مقابل معارضين يُصوَّرون كأنهم “ضعفاء” أو “غير مسؤولين” لأنهم يرفضون الانجرار إلى مغامرة مفتوحة.

بهذا المنطق، تُختزل حياة شعوب كاملة — في إيران وغزة ولبنان وسائر الإقليم — إلى مجرد أرقام في تقارير الخسائر، أو لقطات عابرة في نشرات الأخبار، بينما تُقرأ في عيون الساسة في تل أبيب وواشنطن كـ“مؤشرات” على صمود الحكومة أو تراجعها في استطلاعات الرأي. تصبح المدن المدمَّرة والحدود المشتعلة ومعاناة اللاجئين وقودًا لخطاب انتخابي يقوم على بثِّ الذعر من “التهديد الوجودي”، لا على البحث عن تسوية تضمن أمن الجميع وكرامتهم.  

في هذه المعادلة القاسية، يتحوّل الأمن الإقليمي من هدفٍ يُفترض أن يبنى على توازنات دقيقة وحوارات شاقة، إلى مادة دعائية تُستهلك في الحملات الانتخابية والشعارات الحزبية. وتتحوّل المخاوف الشعبية الحقيقية — من حرب مع إيران، أو جبهة مفتوحة في لبنان، أو دمار متكرر في غزة — إلى رأسمال سياسي يوظّفه نتنياهو للبقاء في السلطة، حتى لو كان الثمن تعميق دوامة العنف، وتوسيع عزلة إسرائيل، وإبقاء المنطقة كلها على حافة حريق لا ينطفئ.

لا يمكن إنكار وجود توتر حقيقي مع إيران، ولا تجميل طبيعة النظام الإيراني وسياساته، لكن يجب رفض تحويل هذا التوتر إلى لعبة شخصية بيد سياسي مأزوم يبحث عن مخرج على حساب أمن المنطقة. على الرأي العام في إسرائيل، كما في الولايات المتحدة وأوروبا، أن يسأل سؤالًا بسيطًا: هل القرارات المصيرية بشأن حرب محتملة في إيران تُتخذ وفق مصلحة إستراتيجية مدروسة، أم وفق مصلحة نتنياهو الانتخابية؟ يجب فضح هذا النهج، ورفض الانجرار وراء خطاب الخوف الذي يبرر كل شيء ولا يحاسب أحدًا.

فالأمن الحقيقي لا يُبنى على المناورات القصيرة النفس، ولا على صناعة الأعداء وتغذية صورتهـم في الوعي العام، بل على رؤية مسؤولة تعترف بتشابك مصائر شعوب المنطقة، وتبحث عن منظومة جماعية لإدارة الخلاف بدل تفجيره. أمنٌ كهذا يحتاج إلى حوار إقليمي جاد، وإلى دبلوماسية نشِطة، وآليات تعاون وتنسيق – من وقف إطلاق النار وضبط الحدود إلى إعادة الإعمار وتخفيف الأزمات الإنسانية – لا إلى سباق في تسجيل الأهداف الإعلامية على حافة حرب شاملة. بهذه الروح فقط يمكن تجنيب الشرق الأوسط كارثة جديدة، وكسر الحلقة المفرغة التي تربط بين بقاء زعيم في الحكم وبين بقاء المنطقة كلّها على حافة الاشتعال.

المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.com     

تابع كل العرب وإبق على حتلنة من كل جديد: مجموعة تلجرام >> t.me/alarabemergency للإنضمام الى مجموعة الأخبار عبر واتساب >> bit.ly/3AG8ibK تابع كل العرب عبر انستجرام >> t.me/alarabemergency

مقالات متعلقة