نحو نقاش يعيد ترتيب الأولويات ويقرأ التحولات

ساهر غزاوي 
نُشر: 11/12/25 23:20

كم نحن في أمس الحاجة، في ظل هذه الظروف العصيبة التي تعصف بأمتنا العربية والإسلامية، وبشعبنا الفلسطيني عامة، وبمجتمعنا الفلسطيني في الداخل خاصة، إلى نقاش تتوفر فيه الإرادة الصادقة، ويكون هادئًا وحكيمًا يعلو فوق ضجيج منصات التواصل الاجتماعي، ويعيد توجيه بوصلتنا الأخلاقية والوطنية. فقد شهد الداخل الفلسطيني، ولا سيّما خلال العقد الأخير، تحولات اجتماعية وسياسية عميقة، وتحديات غير مسبوقة مست النسيج المجتمعي والمشروع الوطني والحقل السياسي، ووضعت أبناءه وقواه الفاعلة أمام اختبار صعب في الوعي والانتماء وترتيب الأولويات.


وفي ظل هذا التداخل بين الضغوط الخارجية وتعقيدات الواقع الداخلي، تبرز الحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى خطاب يُصوّب الرؤية العامة ويحفظ ثوابتنا الدينية والوطنية والأخلاقية، ويعيد الاعتبار لثقافة المراجعة والتفكير النقدي، ويرفع مستوى الحوار من دائرة المناكفات والانفعالات المؤقتة إلى مستوى المسؤولية التاريخية تجاه شعب يواجه منظومة تستهدفه سياسيًا ووجوديًا بشكل ممنهج.
وفي هذا السياق، لا بد من التوقف عند تلويح نتنياهو الأخير بإخراج الحركة الإسلامية الجنوبية عن القانون، وهو تلويح لم يكن مجرد رسالة عابرة، بل امتدادًا لاستراتيجية أعمق دأبت الحكومات الإسرائيلية على اتباعها لتطويع الخطاب والسلوك السياسي العربي، وضبط حدود "المسموح" و"غير المسموح" في إطار المشاركة السياسية. وتبرز القائمة الموحدة، بصفتها الذراع السياسي للحركة الجنوبية، كجهة يُتوقع أن يشملها أي قرار من هذا النوع، خاصة بعد رفعها شعارًا صريحًا بإسقاط نتنياهو أو تغيير حكومته، وهو موقف يمكن اعتباره، في مثل هذه الظروف، لعبًا بالنار. وليس هذا الوصف من باب التخويف، بل من باب قراءة واقعية للمشهد الإسرائيلي كما هو. مشهد ما بعد السابع من أكتوبر 2023 الذي أطاح بكثير من الخطوط الحمراء التي كان يُنظر إليها سابقًا باعتبارها ثابتة لا تُمس.
وكلما ازداد الضغط على نتنياهو داخليًا، أو تفاقمت أزماته القضائية، عاد إلى التلويح بأوراق مختلفة، وفي مقدمتها ورقة الحظر، لتذكير الموحدة ومؤيديها بأن شرعيتهم السياسية ليست ذاتية ولا راسخة، وأنها لم تعد حتى مشروطة بمدى انسجامهم مع متطلبات السلطة أو التزامهم بقواعد اللعبة التي ترسمها السياسة الإسرائيلية العليا. وفي أعقاب هذا التلويح، سارع منصور عباس إلى الإعلان عن فصل حزبه سياسيًا وتنظيميًا عن مجلس شورى الحركة الإسلامية الجنوبية، في خطوة أثارت نقاشًا واسعًا على المنصات الإعلامية. ورغم أن هذه الخطوة تبدو في ظاهرها محاولة لتكريس هوية مدنية وبرلمانية مستقلة للقائمة الموحّدة، إلا أنها تحمل أبعادًا أعمق تتجاوز بُعدها التنظيمي، وتعيد رسم موقع الموحّدة داخل المشهد السياسي، وتطرح أسئلة حول طبيعة دورها في المرحلة المقبلة.
وتفرض هذه اللحظة السياسية مقارنة لا يمكن تجاوزها بين تجربتين متمايزتين داخل الحركة الإسلامية نفسها. فالحركة الإسلامية (المحظورة منذ عام 2015) تبنت خطابًا إسلاميًا وفلسطينيًا واضحًا – يمكن وصفه بـ "الفلسطنة" – جعل من القدس والمسجد الأقصى، ومن القضية الفلسطينية بامتدادها العربي والإسلامي، محورًا مركزيًا في مشروعها الدعوي والاجتماعي والسياسي، إلى جانب بناء مشروع عصامي متكامل اعتمد على ذاته اقتصاديًا ومؤسسيًا. وقد نجحت في ترسيخ حضور الأقصى في وعي الفلسطينيين في الداخل وفي واقعهم اليومي ومجالات نشاطهم المختلفة، كما واجهت بوضوح سياسات التمييز والاضطهاد الديني والقومي التي تمارسها الدولة. غير أن هذا الخيار، رغم طابعه السلمي والمدني، انتهى إلى حظر الحركة سياسيًا وتنظيميًا، والحد من حضورها في القضايا الكبرى، وفي مقدمتها قضية القدس والمسجد الأقصى.
وفي المقابل، تبنت الحركة الإسلامية الجنوبية مسارًا مغايرًا يقوم على التهدئة والمواءمة والسعي إلى الاندماج في البنى السياسية الإسرائيلية، وصولًا إلى دخول القائمة الموحدة في الائتلاف الحكومي لأول مرة في تاريخ الأحزاب العربية. وقد رافق هذا الخيار تحولات واسعة في اللغة والخطاب والتموضع السياسي، إلى الحد الذي باتت فيه قطاعات واسعة ترى في هذا المسار جزءًا من مشاريع الأسرلة والانكفاء على الذات. وتعاملت القائمة الموحدة مع نفسها – في لحظات كثيرة – كما لو أنها حزب إسرائيلي تقليدي يمكنه تحقيق إنجازات مدنية للمجتمع العربي بمعزل عن هويته الفلسطينية، وبصورة مناقضة لخطاب "الفلسطنة" وإعادة تشكيل الوعي داخل المجتمع العربي.
ومع ذلك، ورغم هذا الانخراط العميق في المعادلة الرسمية وتبني مقاربة "التأثير من الداخل"، بقي سيف الحظر مسلطًا على رقبة الحركة الجنوبية والموحدة، التي تعتقد أنها قد تنجو منه بإعلان انفصالها عن الحركة الإسلامية الجنوبية ومجلس الشورى. غير أن هذا الاعتقاد لا يُغيّر من حقيقة راسخة مفادها أن الاستراتيجية الإسرائيلية لا تمنح حصانة لأحد – فخطاب الفلسطنة لا يمنع الحظر، والبراغماتية وخطاب الأسرلة لا يدرآنه – لأن معيار الشرعية السياسية تحدده الدولة وفق موازين القوة التي تتحكم بها، لا وفق خطاب الحزب أو موقعه من الطيف السياسي.
ولا يمكن فصل هذا التهديد عن مناخ أوسع من التضييق والملاحقات التي طالت شرائح واسعة من المجتمع العربي في الداخل خلال السنوات الأخيرة، وتفاقمت بصورة غير مسبوقة بعد السابع من أكتوبر 2023. فقد شهدت هذه المرحلة اعتقالات إدارية واستدعاءات سياسية وإجراءات قمعية طالت ناشطين وطلابًا وأكاديميين وأئمة مساجد، بل وعموم المواطنين، في محاولة لفرض معادلة ردع جديدة تُحاصر المجال العام العربي وتضيّق مساحات التعبير والهوية الوطنية.
وأخيرًا وليس آخرًا، فإن التلويح بالحظر وما ترافق معه من ملاحقات واتساع دائرة القمع يؤكد أن الدولة تعيد إنتاج العلاقة الهرمية مع مجتمعنا، وتفرض حدود المشاركة السياسية وفق مقاس مصالحها ورؤاها، لا وفق خطاب الأحزاب ولا توجهاتها. وفي مواجهة هذا الواقع، تصبح المراجعة الصادقة ضرورة لا مهرب منها، مراجعة تفتح نقاشًا صريحًا داخل الصف الإسلامي وبين تيارات الصحوة الإسلامية، نقاشًا يعيد قراءة التجارب كلها – البرلمانية وغيرها – ويفحص التحولات، ويبتعد عن التخندق وتبادل الاتهامات، ويمتد إلى الدائرة الوطنية بأسرها بحثًا عن مسار يحمي الاجتماع العربي ويحصن مشروعه السياسي. وفي زمن تتكاثر فيه الأخطار وتتجدد فيه محاولات مصادرة الهوية، لا يبقى أمامنا سوى الوعي والبصيرة أساسًا لأي فعل يحفظ وجودنا وكرامتنا، ويضمن بقاءنا راسخين على هذه الأرض.

تابع كل العرب وإبق على حتلنة من كل جديد: مجموعة تلجرام >> t.me/alarabemergency للإنضمام الى مجموعة الأخبار عبر واتساب >> bit.ly/3AG8ibK تابع كل العرب عبر انستجرام >> t.me/alarabemergency

مقالات متعلقة