حين يتحوّل الكتاب إلى محكمة للوعي: قراءة وجودية-فكرية في كتاب

رانية مرجية
نُشر: 06/12/25 00:02

"العرب في الـ48: الهويّة الممزّقة بين الشعار والممارسة! وقفات على المفارق [دراميات سيافكريّة]" لسعيد نفّاع

لا يقدِّم سعيد نفّاع في كتابه "العرب في الـ48: الهويّة الممزّقة بين الشعار والممارسة! وقفات على المفارق [دراميات سيافكرية]" نصًّا يمكن وضعه ببساطة على رفّ “الدراسات الفلسطينية”.
هذا عملٌ يطمح إلى أكثر من التوثيق والتحليل؛
إنه يسعى إلى إعادة محاكمة الوعي نفسه: وعي الفلسطيني في الداخل، ووعي نُخَبه، ووعي علاقته المعقّدة بدولة وُجد داخلها رغمًا عنه، وبوطنٍ لا يستطيع أن يعيش دونه.

منذ العنوان، يعلن نفّاع أن موضوعه ليس “الهويّة” في صورتها المجرّدة، بل تمزّقها بين ما نعلنه وما نعيشه، بين الشعار الذي نرفعه، والممارسة التي نقبلها أو نضطر إليها.
أما عبارة «وقفات على المفارق» فهي ليست تزيينًا بل هيكل الكتاب ذاته:
كل فصلٍ مفترق طرق،
وكل مفترق امتحان أخلاقي وفكري،
وكل امتحان يُعاد طرحه علينا كقرّاء وكجماعة سياسية في آن.

1. من التأريخ إلى التفكيك: كيف يكتب نفّاع الهوية؟

لا يكتفي نفّاع بأن يسرد أحداثًا ومحطات: انتخابات، أحزاب، تحالفات، هبّات شعبية، تحوّلات إقليمية…
إنه يستخدم هذه المحطات كـ مسرح درامي للوعي؛ وهنا تتجلّى فكرة “الدراميات السيافكرية” التي يعلنها في العنوان الفرعي.

فهو:
• يقدّم الشخصيات السياسية والاجتماعية لا كأسماء، بل كصوَر لخيارات ومسارات؛
• يضع الحدث في قلب سؤال: ماذا فعل هذا بنا؟ لا ماذا فعلناه نحن فقط؟
• يكتب التاريخ كصراع بين خطابين:
– خطاب الشعار: وطني، ثوري، مرتفع النبرة؛
– وخطاب الممارسة: براغماتي، متردّد، مثقَل بحسابات البقاء اليومية.

بهذا المعنى، لا يعود الكتاب “تاريخًا للفلسطينيين في الـ48” بقدر ما هو تشريح لوعيهم السياسي والوجداني، وللثمن الذي دفعوه كلّما اختاروا طريقًا على حساب آخر.

2. الهويّة كجرح مفتوح: بين المواطنة القسرية والانتماء المستحيل

يعرّي نفّاع التناقض البنيوي الذي يعيشه الفلسطيني في الداخل:
هو “مواطن” في دولةٍ قامت على نكبته،
وهو “ابن الوطن” في خطاب قوميّ يشك في شرعية وجوده داخل حدود هذه الدولة.

الكتاب يكشف كيف تُعاد صياغة الهوية تحت ضغط ثلاث قوى متداخلة:
1. سلطة استعمارية تريد “مواطِنًا عربيًا” منزوع الحدّة، منضبطًا بقوانين اللعبة الديمقراطية، يرى نفسه أقلية ثقافية لا جزءًا أصيلًا من الشعب.
2. خطاب وطني تقليدي يطالبه أن يكون في كل لحظة “رمزًا للمقاومة” حتى لو انهكتْه تفاصيل الحياة اليومية داخل نظام معقّد من القوانين والقيود.
3. حياة اجتماعية-اقتصادية جديدة تُغريه بمساحات من الرفاه الفردي، بينما تسرق من تحت قدميه الأرض والمعنى.

من خلال هذه القوى الثلاث يرسم نفّاع صورة الهوية كـ جرح مفتوح لا كتعريف ثابت؛ جرحٍ يتجدّد كلّما صوّت في انتخابات، أو أرسل ابنه إلى مدرسة رسمية، أو وقف في طابورٍ في مؤسّسة حكومية، أو شارك في تظاهرة وطنية.

3. نقد الداخل: شجاعة مواجهة الذات قبل الآخر

قيمة الكتاب الكبرى، في رأيي، تكمن في أنه لا يكتفي بنقد الدولة، بل يذهب أبعد إلى نقد الذات الفلسطينية نفسها: أحزابها، قياداتها، خطابها، واستعدادها أحيانًا للتكيّف مع الأمر الواقع تحت عناوين مختلفة.

ينتقد نفّاع:
• تحوّل بعض الأحزاب من حوامل مشروع وطني إلى وسطاء خدمات؛
• استسهال رفع الشعارات الكبرى مقابل التسويات الصغرى في الكواليس؛
• توظيف الخطاب الوطني أحيانًا لتبرير عجز تنظيمي أو قصور فكري؛
• ميل جزء من النخبة إلى اعتبار المشاركة البرلمانية هدفًا بحدّ ذاتها لا وسيلة في مشروع أشمل.

هنا تتجلّى شجاعة الكاتب: فهو لا يكتب من خارج المشهد، بل من داخله، ومن موقع من عايش التجربة حراكًا وملاحقةً واعتقالًا، ثم قرّر أن يمارس نقدًا ذاتيًا لا يوفّر أحدًا.
هذا النقد لا يأتي من رغبة في التصفية، بل من إيمان عميق بأن “الهويّة الممزّقة” ليست قدرًا نهائيًا، بل نتاج خيارات قابلة للمراجعة.

4. الدراميات السيافكرية: بين الوثيقة والسردية

من أجمل ما في الكتاب استخدامه لصيغة «الدراميات السيافكرية»؛
فكل وقفة من “الوقفات على المفارق” تُبنى كما لو أنّها مشهد مسرحي:
• بداية فيها توتر أو مفاجأة أو حدث مفصلي؛
• تطوّر يكشف المواقف والرهانات المتضاربة؛
• ذروة تَظهر فيها المفارقة الأخلاقية أو السياسية؛
• ثم خاتمة لا تُغلق الباب، بل تترك القارئ أمام سؤال يتجاوز زمن الحدث.

هذه البنية تمنح النص قوة سردية تجعله قريبًا من القارئ غير المتخصّص، دون أن تفرّط بعمقه التحليلي.
كما أنها تحرّر الكتاب من جمود اللغة الأكاديمية، وتسمح له بأن يكون في آن واحد:
وثيقةً، وشهادةً، وتأمّلًا فكريًا.

5. بين ضياع المشروع وضياع المعنى: ماذا يريد نفّاع أن يقول لنا حقًا؟

خلف التفاصيل الكثيرة، والخلافات الحزبية، والانتخابات المتكرّرة، يمكن التقاط خيطٍ ناظم لكتاب نفّاع:
انهيار المشروع الوطني في الداخل لا يُقاس فقط بتراجع الخطاب السياسي، بل بتآكل المعنى في حياة الناس.

حين تتحوّل السياسة إلى إدارة يوميات،
وتصبح المشاركة في النظام هدفًا بحد ذاته،
وتُستبدَل فكرة التحرّر بفكرة “تحسين شروط العيش”،
تبدأ الهوية بالتآكل من الداخل، حتى لو بقيت الشعارات مرتفعة.

بهذا المعنى، الكتاب ليس حنينًا إلى زمنٍ ماضٍ، بل تحذيرًا من مستقبل قد نفقد فيه القدرة على التمييز بين:
• النضال والتكيّف،
• التمثيل الحقيقي والتوظيف الرمزي،
• المشاركة كأداة تغيير والمشاركة كقناع شرعية.

6. حدود الكتاب… وفضله

لا يدّعي هذا العمل الحسم في كل شيء، ولا يقدّم خارطة طريق جاهزة.
قد يعترض قارئٌ على حدّته في نقد الأحزاب،
أو على نبرته المتشائمة حيال إمكان التغيير من داخل النظام،
أو على بعض التعميمات التي يبدو فيها الصوت الفردي أكبر من تنوّع التجربة الجماعية.

لكن فضل الكتاب أنه:
• يفتح النقاش في عمق المفارقات التي نتهرّب منها؛
• يذكّرنا بأن الهوية مشروعٌ متحرّك لا وصفة ناجزة؛
• يعيد الاعتبار لفكرة النقد الداخلي كشرطٍ لأي نضال جاد؛
• ويمنحنا، نحن أبناء هذا الداخل، لغةً أوضح لمشاعر التمزّق التي نعيشها ولا نسميها.

7. في خلاصة وجيزة: كتاب يطالبنا بالصدق مع أنفسنا

يخرج القارئ من «العرب في الـ48: الهويّة الممزّقة بين الشعار والممارسة» بشعور مزدوج:
ثقلٍ من حجم الأسئلة،
وخفّةٍ من سقوط الأوهام.

فهذا كتاب لا يَعِدُنا بانتصارات قريبة،
ولا يرسم لنا خريطة طريق مُطمئنة،
لكنه يمنحنا شيئًا أندر:
شجاعة النظر في المرآة دون زينة.

وحين تصبح الهوية سؤالًا مفتوحًا لا جوابًا مريحًا،
وحين ندرك أن الوقوف على المفارق قدرٌ لا مهرب منه،
ربما نكون قد قطعنا الخطوة الأولى نحو وعيٍ أقلّ تمزّقًا،
وطنٍ أقلّ كذبًا على نفسه،
ومستقبلٍ لا يُبنى على الإنكار، بل على الاعتراف.

هذا ما يفعله بنا كتاب سعيد نفّاع:
لا يُغلق الجرح، لكنه يرفض أن يتركه بلا اسم

تابع كل العرب وإبق على حتلنة من كل جديد: مجموعة تلجرام >> t.me/alarabemergency للإنضمام الى مجموعة الأخبار عبر واتساب >> bit.ly/3AG8ibK تابع كل العرب عبر انستجرام >> t.me/alarabemergency

مقالات متعلقة