حين تعلّم النور أن يتكلم

رانية مرجية
نُشر: 07/11/25 08:29

في الرابعة والعشرين من عمره، لم يكن “آدم” يعرف أنه مريض.

كان يظن أنه مثل الجميع — فقط أكثر حاجة إلى اللمس، أكثر خوفًا من الوحدة.

لكنّ العالم لم يره كإنسان.

رآه وحشًا.

حين قبضوا عليه بعد أن تحرّش بطفل، لم يفهم ماذا يعني أن تكون مجرمًا، لأن أحدًا لم يعلّمه يومًا ماذا يعني أن تكون بريئًا.

وُلد آدم في بيتٍ بلا أبوابٍ تُغلق على الطفولة.

أبٌ يقامر حتى الفجر، يبيع ضميره كما يبيع أثاث البيت، يصرخ في وجه الأم كمن يفرغ داخله السمّ.

أمٌّ صامتة كجدارٍ خائف، تمسح الدموع من على وجهها لتغسل بها وجه أطفالها.

وأخواتٌ فقدن الطريق إلى الطفولة حين صار الجسد وسيلة للبقاء.

بيتٌ مليء بالضوء الكهربائي، لكنه بلا نور.

هناك، تعلم آدم أن الجسد يُستَخدم، أن القرب يُشترى، أن الحبَّ وجعٌ يُدارى باللعب.

حين كان في السابعة، رأى أباه يضرب أمه حتى سقطت.

في تلك اللحظة، انكسر شيء في داخله — ذلك الخيط الدقيق الذي يفصل بين الحنان والأذى.

ولمّا كبر، صار يكرر ما تعلّمه دون أن يدرك أنه يُعيد إنتاج الجرح ذاته.

في المحكمة، كان صوته أشبه بصوت طفلٍ يسأل:

“هل يمكن أن أعود صغيرًا؟”

لكن القضاة لا يسمعون هذا النوع من الأسئلة.

القانون لا يفهم البراءة المكسورة، فقط الجرم.

هكذا حُكم عليه بالسجن، وأُغلق الباب خلفه كما أُغلقت كل الأبواب قبله.

في الزنزانة، كان يجلس طويلاً أمام الجدار.

أحيانًا يضحك وحده، وأحيانًا يبكي حين يسمع صرخةً من بعيد.

كان يحلم ببيتٍ له جدران بيضاء، فيها نافذة واحدة تطل على الشجر.

لم يكن يريد الحرية — كان يريد فرصةً للفهم.

ثم جاءت سلمى.

امرأة لا تشبه أحدًا من عالمه.

عالمة نفس جاءت من منظمة دولية تعالج من يسمّيهم العالم “المنحرفين”.

لكنها لم ترَ منحرفًا أمامها، بل إنسانًا انكسر قبل أن يُخلق وُعيه.

قالت له في الجلسة الأولى:

“آدم، لم تخلق شريرًا. وُضعت فقط في مكانٍ علّمك الخطأ قبل أن تعرف الصواب.”

ومنذ ذلك اليوم، بدأت معركة النور مع الظل.

لم يكن العلاج سهلاً.

في كل جلسة كان يتصارع مع ذاكرته، يصرخ كطفلٍ يرى للمرة الأولى الجرح الذي في داخله.

كانت تقول له:

“التوبة ليست اعترافًا أمام الناس، بل مصالحة مع نفسك.”

بدأ يرسم.

في البداية كانت لوحاته رمادية كالسجن، بلا وجوه ولا شمس.

ثم بدأ يرسم أطفالًا يضحكون، ثم وجوهًا تشبه أمه.

وفي يومٍ، رسم نافذة في وسط الظلام.

سألته سلمى:

“ما هذا الضوء؟”

فقال:

“أنا… حين لم أعد أخاف من نفسي.”

خرج آدم بعد خمس سنوات.

لم تفتح له الحياة ذراعيها، لكنه لم يعد يبحث عنها.

عمل في مركزٍ صغير للأطفال ذوي الإعاقة، يُعلّمهم الرسم والألوان.

كان يعرف كيف يكلّمهم لأنّه كان يومًا في مكانهم — غريبًا عن العالم، يبحث عن كلمةٍ تُطمئنه.

في أول معرضٍ له، اجتمع الفنانون والصحفيون والناشطون.

كانت لوحته الأخيرة تُظهر طفلًا يقف في عتمةٍ كثيفة، يفتح بيديه نافذةً يدخل منها النور، وخلفه ظلّ لرجلٍ يجلس حزينًا.

سألته سلمى — وقد أتت من بعيد لتراه:

“من هذا الرجل؟”

قال:

“هو أنا، حين غفرت لأبي.”

صرخة للضمير الإنساني

آدم ليس شخصًا واحدًا، بل مجتمعٌ بأكمله وُلد في الظل.

كلّ بيتٍ صامتٍ على العنف يخلق “آدمًا” جديدًا، وكلّ طفلٍ لم يُحتَضن يُنذر بعالمٍ بلا رحمة.

المجتمعات التي لا تعالج، تُنتج الجريمة ثم تدينها.

المدارس التي لا تُعلّم الحب، تزرع الخوف.

وحين يُعاقَب من لم يُفهَم، يموت فينا ما تبقّى من إنسانيتنا.

في عالمٍ يقدّس القانون وينسى الرحمة، يجب أن نعيد تعريف العدالة.

العدالة ليست فقط عقاب الفعل، بل فهم جذره.

والرحمة ليست عطفًا، بل معرفة — معرفة أن كل ظلامٍ يحتاج إلى من يعلمه كيف يتكلم نورًا.

فليكن اسم “آدم” شاهدًا علينا جميعًا:

على بيوتنا التي تخنق الطفولة، ومدارسنا التي لا تُعلّم الحنان، وأنظمتنا التي تخاف من الاعتراف بأن المجرم أحيانًا… ضحية.

تابع كل العرب وإبق على حتلنة من كل جديد: مجموعة تلجرام >> t.me/alarabemergency للإنضمام الى مجموعة الأخبار عبر واتساب >> bit.ly/3AG8ibK تابع كل العرب عبر انستجرام >> t.me/alarabemergency

مقالات متعلقة