حيـــــــفا الحاضرة 

د. جودت عيد
نُشر: 27/08/25 22:54

حيـــــــفا الحاضرة 
في لوحات الفنّان كميل ضَو 
د. جودت عيد
هناك زاوية خاصّة في حيفا تحمل شيئًا من هذه المدينة الجذّابة الّتي نعرفها أو الّتي لا نعرفها، تسكن في أوّل "شارع الجبل" في بيت أثريّ عتيق يحمل بين حجارته حكايات وحكايات، وأحلام، وفرح، وقلق وكلّ معالم الحياة الّتي كانت، أو الّتي مرّت من هنا وتركت عطرًا أو ذكرى تهيم في أثير المكان. على جدران ذلك البيت، تحتفل أمامك لوحات فنيّة رسمتها أنامل مبدعة وعيون حالمة ترفرف كفراشة ملوّنة بألوان البقاء والحضور في وادي النّسناس، ووادي الصّليب، ووادي روشميا، ومطلّ البحر، وحقول من فرح أخضر وأصفر، وطبيعة بسيطة تلقائيّة، ومساحة ملوّنة من انتصار وانكسار، وإصرار، ووطن يسكننا ويدغدغ ذواتنا عند هطول المطر بشغف، فوق تراب حاكورة ذلك البيت الجميل الكائن في "شارع الجبل" في حيفا. لوحات فيها الكثير من الزّهور والحقول، لوحات لبيوت حيفا، وبحرها، وشمسها، وكرملها، لوحات لأزقّة القدس، لوحات لأحياء النّاصرة، لوحات للرّوح الّتي تلهث فوق حيطان الممرّات القديمة بين بيوت حيفا، لوحات لحضور مجد الله على الأرض وسلامه وكلماته، لوحات تحكي عن جبروت الطّبيعة، وعن فرح الأرض وغضبها وحزنها، وعن الانسان الّذي فينا، والانسان الباقي في الذّاكرة. هي احتفاليّة لرحلة الفنّان كميل ضَو مع الألوان على مدار أربعة عقود ونيّف مع الرّسم، والفنّ الحروفيّ والتّشكيليّ، منذ وقعت نقطة حبر طائشة على ورقة فوق طاولته في مكاتب صحيفة الاتّحاد الّتي عمل فيها آنذاك كخطّاط، لتبدأ رحلة وتستمرّ حتّى اليوم، والّتي يوثّقها في مرسمه في حيفا.
قبل حوالي عقدين من الزّمن التقيت الفنّان كميل ضَو، في معرض له نُظّم في النّاصرة. لفت نظري حينها قدرته على رسم لوحاته من خلال توظيف الحرف العربيّ، وانكشفت لأول مرّة على فنّ جميل لم أعرفه من قبل. أثار اهتمامي هذا الفنّ الحروفيّ بكلّ أبعاده وغموضه، وتداعياته، وتحدّياته البصريّة، والفكريّة، والثّقافيّة. تردّدت على مرسمه "مركز كيميديا" في حيفا عدّة مرّات، وشاركت في عدّة برامج ومعارض له، بالذّات بعد انتقالي للسّكن في حيفا قبل عدّة سنوات واهتمامي بالبرنامج الثّقافي فيها، الّذي يتماهى مع تجربة وثقافة وزمكانيّة غياب واغتراب وتهجير، ورواية نازحين، أو رواية باقين، أو مهاجرين إلى حيفا من كلّ زوايا الوجع، أو الإصرار، أو الحضور، أو الحبّ. تجعلني لوحات كميل ضَو الحروفيّة، في كل مرّة ألتقيها، أن أتحدّى نفسي لقراءة الكلمات، كما أفعل مع كلّ من يزورني حيث أوجّه انتباهه إلى الّلوحة المعلّقة في بيتي، والّتي رسمها الفنّان لإحدى قصائدي القصيرة، وأحثّه بأن يحاول قراءة الكلمات في الّلوحة، أو حين أحاول أن أثير فكره لتحليل الكلمات في لوحة حروفيّة تزيّن غلاف احدى كتبي، وفي كلّ مرّة أتمتّع بالتّحدّي من جديد لأجد معالم حروفي في لوحة غامضة، صامتة، صاخبة، مثيرة، جذّابة وفنيّة.
في زيارتي مؤخّرا لمرسم الفنّان، دُهشت كما دُهشت في المرّة الأولى حين كنت في معرضه في النّاصرة بانكشافي على الفنّ الحروفيّ، لكن هذه المرّة كانت دهشتي تختلف، فلم أجد الّلوحات الحروفيّة، ولم أجد ملامح الرّسام الّذي أعرفه، وشعرت للحظات أنّني أخطأت بالعنوان، فلم تكن إلّا لوحة واحدة لتشي أنّ المعرض للفنان كميل ضَو، والّتي تهيمن عليها الحروف بشكل بارز، أما الّلوحات الباقية فكانت تشكيليّة، والّتي تعرض جانبًا آخر من الموهبة في تعدّديّة الانتاج الفنيّ، كما الكلمة طيّعة بيد الكاتب المتمرّس، كذلك الأمر مع ريشته، فهي طيّعة بيديه، وهذه موهبة أنعم الله عليه بها، وراح هو ليصقلها بأمانة وثقة واجتهاد على مدار سنوات طويلة بصمت وبعمق وبجديّة. لوحات كميل ضَو التّشكيليّة لا تقلّ ابداعًا عن لوحاته الحروفيّة، فنجد فيها ايمانًا كبيرًا وفكرًا نيّرًا ووطنيًّا، وكذلك فكرًا روحانيًّا يعتمد تعاليم الكتاب المقدّس وكلام السّيد المسيح، فيحضر أمامك توثيقًا مرسومًا زخمًا لمعالم وطن ومعالم ثقافة، ليأخذنا إلى مساحة دافئة في أروقة الرّوح والنّفس، وحقول الفرح والبساطة، وبيوت تملأها السّعادة، يأخذنا إلى مساحة الحضور والغياب والحنين والخصوصيّة والبقاء في الثّقافة الفلسطينيّة، في مدارات الذّاكرة الشّخصيّة والمجتمعيّة والجمعيّة، ويأخذنا إلى التّناغم الّذي ممكن أن يكون، وممكن أن نخلقه كمبدعين أو نتخيّله أو نرسمه رموزًا، لنعبّر عن جوانب من ذواتنا، وحضورنا، وحكايتنا، وروايتنا. تجوّلت بين لوحات المعرض وكأنني أقرأ كتابًا من عدّة فصول، أو قصصًا قصيرة متنوّعة، وكأنّني أقفز من مكان إلى آخر ومن زمن إلى آخر ومن حنين إلى آخر، وكلّي شغف ولهفة.  
هناك مدارس عديدة في الفنّ التّشكيليّ، كالمدرسة الواقعيّة، والانطباعيّة، والرّمزيّة، والتّعبيريّة، والسّرياليّة، والتّجريديّة، وغيرها. الفنّان كميل ضو، هو فنّان الحَرف العربيّ، وتمتدّ موهبته إلى الفنّ التّشكيليّ، وقد تأثّر بالمدرسة الانطباعيّة والتّكعيبيّة، الّتي انعكست في أعماله ولوحاته، الّتي عمل على تطويرها منذ شعر بشغفه للألوان، وحين ابتدأ رحلته منذ أكثر من أربعة عقود، ليحرّر شغفه وألوانه ويطلقها في لوحاته الرّحبة، ليعبّر عن إحساسه وفكره الّذي يعكس حقبة زمنيّة، وفكرًا مجتمعيًّا وروحيًّا، ويوثّق صورة من الحضور والذّاكرة والبقاء في حيفا، وفي كلّ مكان يجد فيه ملامح وطن، أو رواية وطن، أو عطر وطن!


 

تابع كل العرب وإبق على حتلنة من كل جديد: مجموعة تلجرام >> t.me/alarabemergency للإنضمام الى مجموعة الأخبار عبر واتساب >> bit.ly/3AG8ibK تابع كل العرب عبر انستجرام >> t.me/alarabemergency

مقالات متعلقة