الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الثلاثاء 15 / أكتوبر 17:01

ردّ الصاع صاعين، والتردّد في سبل السلام

الشيخ صفوت فريج
نُشر: 26/09/24 19:23

للإنضمام الى مجموعة الأخبار >> whatsapp.com/channel/0029VaPmmw0FMqrR6DDyOv0E تلجرام t.me/alarabemergency

ردّ الصاع صاعين، والتردّد في سبل السلام

الشيخ صفوت فريج - رئيس الحركة الإسلاميّة في البلاد

حينما وضعت معركة أُحد أوزارها، وانصرف المشركون، انكشف المسلمون على هول ما فُعِلَ بإخوانهم من الشهداء: تقطيعٌ للآذان والأنوف، وشقٌّ للبطون وتمثيلٌ بالجثث. تأثّرَ الصحابة رضوان الله عليهم بهذه المشاهد حتّى قال بعضهم: "لئن أنالنا الله منهم، لنفعلنَّ ولنفعلنّ"، فنزل قول الله تعالى معاتبًا مؤدّبًا موجّهًا: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ، وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِين}، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "بل نصبر"، ليكون ذلك درسًا في الصبر والتعالي على مشاعر الرغبة في الانتقام، وتأكيدًا على أنّ الصبر خيرٌ وأعظم أجرًا.

يصبر رسول الله صلوات الله عليه، وهو الّذي لم يشهد في حياته أفجع من يوم أُحد، حيث مثّل وحشيّ بن حرب الحبشيّ بأقرب الناس إلى قلبه، عمّه وأخيه في الرضاعة، حمزة بن عبد المطّلب، والّذي نشأ معه وترعرع إلى جانبه. فكيف ردّ رسول الله حينما ظفر بوحشيّ؟ يقول وحشيّ: "خرجت حتّى قدمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة، فلم يرني إلّا قائمًا أمامه أشهد شهادة الحق. فلمّا رآني قال: أوحشيّ أنت..؟ قلت: نعم يا رسول الله، قال: فحدّثني كيف قتلت حمزة، فحدّثته، فلمّا فرغت من حديثي قال: ويحك، غيِّب عنّي وجهك. فكنتُ أتنكّب طريق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حيث كان، لئلّا يراني، حتّى قبضه الله إليه". كانت فاجعة النبيّ بحمزة عظيمة، لكنّ صبره واحتسابه كان أعظم.

وهكذا كان موقفه صلوات ربّي وسلامه عليه مع هند بنت عتبة، تلك الّتي أكلت من كبد عمّه حمزة. جاءته مبايعة وهي تتحدّث بلسان النساء وتنوبُ عنهنّ لما لها من قوّة شخصيّة وجرأة. حين عرفها النبيّ قال لها: "أنت هند بنت عتبة؟"، فردّت قائلة: "أنا هند بنت عتبة، فاعفُ عمّا سبق، عفا الله عنك"، ليرحّب بها النبي دون أن يوجّه لها كلمة عتابٍ أو لوم. موقف يعكس قلبًا نقيًّا لنبيّ رحيم، لا يعرف معنى الانتقام، ولا أن يردّ الصاع صاعين، ولا حتّى السيّئة بمثلها، بل يعفو ويصفح بسجيّته الطاهرة، ولا يغضب إلّا لله ودين الله.

ولم يكن هذا من ضعف حاشاه، بل من القوّة ذاتها. "ما ترون أنّي فاعلٌ بكم؟"، سألهم عليه الصلاة والسلام حينما دخل مكّة فاتحًا وهو على رأس جيوش المسلمين، بعد أن خضعت له قريش. كانوا على يقين، وهم يحسنون الظن بالنبي، أنّه لن يكيل الصاع صاعين، وثقوا برحمته وكرم أخلاقه وهم الّذين اعتدوا عليه وأذاقوا أصحابه أصناف العذاب، هجّروهم من بيوتهم وأوطانهم، وصادروا أملاكهم وممتلكاتهم، لكنّهم لم يتردّدوا وقالوا: "خيرًا، أخٌ كريم وابن أخٍ كريم"، فقال لهم: "اذهبوا فأنتم الطلقاء". قوّة حقيقيّة تكمن في العفو عند المقدرة، والصفح عند الكرام.

"لا تغلوا ولا تغدروا، ولا تمثّلوا، ولا تقتلوا وليدًا"، كانت هذه وصايا ثابتة يوجّهها النبيّ قبل أيّ معركة يخوضها جيش المسلمين، دعوة صريحة واضحة لا تحتمل التأويل، للرحمة والابتعاد عن تفعيل آليّات الحقد مهما كانت المبرّرات. ولم يكتفِ بذلك- بأبي هو وأمّي- بل نهى عن قتل الرهبان والشيوخ والأطفال والمصابين والمرضى بل وحتّى عن قطع شجرة. حينما رأى امرأةً قتيلةً، غضب وقال: "ما كانت هذه تقاتل"، أكثر من مجرّد إشارة لحرمة الاعتداء على المسالمين غير المقاتلين. وحينما تنتهي المعركة، كان يوصي بالأسرى ويقول: "استوصوا بالأُسَارَى خيرًا". هذا دين الله، وهذه أخلاق رسول الله. 
واليوم نشهد وننكشف كيف يدفع الحقد بعض أصحابه للتنكيل وردّ الصاع أضعافًا على أسارى مصابين لا حول لهم ولا قوّة، لندرك عمق الفجوة بين القيم السامية وما نراه من أفعالٍ لا تمتّ للإنسانيّة بصلة.

هذا وغيره كثير من المواقف الإنسانيّة الرحمانيّة الّتي تتجلّى في مقاصد الدين الحنيف، ومنها "حفظ النفس". لهذا كان رسولنا أحرص ما يكون على فتح مجال الحوار وأبواب السلم ما دامت الإمكانيّات متاحة، في حين نرى اليوم -كما الأمس وقبل الأمس- أيديولوجيّات حريصة على الاندفاع نحو الحرب كخيارٍ أوّل، يتردّدون ويتباطؤون في اللجوء إلى الحلول السلميّة، ويخلقون ألف ذريعة وذريعة كي تبقى نار الحرب والعداوة والكراهية مستعرة، "كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ". كلّما، وتفيد التكرار والإصرار.

لا شكّ أنّ الحروب والصراعات كانت وستبقى جزءًا من التاريخ البشري، الماضي والحاضر والآتي. يبقى الفرق في الرؤى والأفكار الداعية لتأجيج هذه الصراعات، مقابل من يقدّم رؤية أخرى متكاملة ومغايرة، تسعى لتذليل التحدّيات والصعوبات، وتدعو بوضوح للتفاهم والتسامح والتمسّك بقيم السلام، يقول تعالى: {وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}، والجنوح بمعنى الميل، أي يكفي أن يميل العدو نحو السلم وترك القتال، ليكون عليك أن تجنح لها أيضًا. لكن ماذا لو كان هذا الميل خديعة ومكيدة؟ يجيب قرآننا بوضوح: {وَإِن يُرِيدُوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ، هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ}.

وحتّى لو تجاوزنا الميزان الشرعي، ونظرنا للأمور بمقاييس الربح والخسارة، تبقى الحروب بطبيعتها جالبة للدمار والخراب، هي نار لا تبقي ولا تذر، تخلّف أرامل وأيتامًا، وتأتي على الأخضر قبل اليابس، وتعصف بأمن الأفراد والمجتمعات. في المقابل، حين نستثمر السلام بشكل صحيح لا شكّ أنّه يجلب الخير والرخاء للجميع. من الّذي يربح في الحرب؟ لا أحد. من الّذي يكسب من السلام؟ أهل السلام جميعًا.

اللهمّ أنت السلام ومنك السلام، اهدنا يا ربّنا سبل السلام، واغسل قلوبنا بماء السّلام، فلا حقد ولا غلّ ولا انتقام ولا السيّئة بمثلها ولا الصاع بصاعين.

مقالات متعلقة