الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: السبت 18 / مايو 09:02

ولادة من الخاصرة وساعاتُ جمر/ بقلم: ناشد عبد النور من حيفا

كل العرب
نُشر: 25/08/12 11:46,  حُتلن: 13:35

ناشد عبد النور في مقاله:

ما لمسته في كتابة سامر رضوان هو التشعبات الكبيرة وصراعات الفساد داخل الفساد حيثُ كانت الألعاب تجري في ساحة الكِبار وكانت الحَربُ بينَ الكبار

شخصية المقدم رؤوف التي أبدعها الكبير عابد فهد كانَت أساسًا للعمل وركيزة لَه فتوسيع رقعة الدور عن ما كانت في الجزء الأول، ساهم في رفع مستوى العمل فنيًا ومضمونًا

قدّم الكاتب الكبير سامِر رضوان نصًا رفيع المستوى وأفكارًا تلامس الأبدان وقصصًا من نبض الواقع الذي يعيشه العالَم العربي وليس السوري فقط. فما كانَ مِنه إلّا أن عَرض ملامِح الأزمة السورية مُدققًا بتفاصيلها من أبسطِ المواطنين حتى أرفع القيادات. وبلمساتٍ رائعة من المخرجة الكبيرة رشا هشام شربتجي، إكتملت الصّورة وأُتمم المعنى، معَ باقَةٍ مِن عمالقة الدراما السّورية زُخرف العَمل ليكونَ بالإضافة لمعناه وأثره وثيمته وحبكته وفكرته، عملًا فَنيًا كبيرًا يستحق المشاهدة والمتابعة والتدقيق بكل عناصره.

سأعرضُ نقاطي على شكلِ تبويباتٍ حتى يتسنى لي التوسع فيها والتّعليقِ عليها:

"القيادة"، لأوّل مرة في الدراما السورية:
آثر الكاتب سامر رضوان الإكثار من استخدام مُصطلح "القيادة"، في وضعٍ أراه الأول من نوعه في الدراما السورية، يشير به إلى القيادة العليا، فالكاتِب إستخدم أيضًا "حكومة"، ووجود مصطلحان يعني وجود نوعان ومعنيان، حيث أراد بلفظ مصطلح "القيادة" قَصد القيادة الأولى في الدولة والسياسية الرفيعة.  لطالما رافقَ هذا المصطلح جُملًا تهتَمّ بشؤون المواطن مثل: "القيادة أهم أولويّاتها المواطن" – الفنان تحسين خيربيك بدور نائب المحافظ- وسُرعان ما انقلبَ الأمرُ وتبدل الموقف ليغير المحافظ تعامله مع أحد المواطنين (عبد الهادي صباغ – أبو حسام)، ليضرب الكاتب بهذا المشهد عصفورين بحجر، العصفور الأول هو المظاهر التي تسعى "القيادة" لإيصالها للمواطن عن طريق الإعلام، والعصفور الثاني عَدم تقبّل "القيادة" لأي إعتراض من المواطن البسيط.
ولعلّ أحد الأسباب الرئيسية في إظهار هذا المصطلح، هو تعليق المسؤولية على عاتق القيادة بكل تفاصيل حياة الإنسان السوري. على عكس الجزء الأول، آثر الكاتب إدخال القيادة السورية في لُب صراعات المواطن في سورية، فبات عُنصرًا أساسيًا في الحبكة الدرامية وإظهار الهدف الأساسي للعمل، الذي قُدِّمَ بشكل رائع ودقيق وواضِح.
في مَشهَدٍ بينَ المُقدّم رؤوف (عابد فهد) ورئيس قسم الشّرطة (الجهاز الأمني)، قال رئيس القسم:" حماقة إنّك تفوت على بيت مسؤول كبير كي تمسك مُجرم أو مطلوب"، فأجابه رؤوف بجملة لخّصت وعَنت الكثير:" الحماقة سيدي إنه مسؤول زي هيك، يحمي شكال زي هيك".
نقد لاذع ومباشر للقيادة حيثُ إن المسؤول المذكور إتضح أنه مسؤول رفيع المستوى وله وزنه السياسي والإجتماعي والإقتصادي.

الجَيش العربي السوري، القدير عبد الهادي صبّاغ:
إستطاع الكاتِب بنجاح، إدخال الجيش العربي السوري إلى محور الأحداث، تمثّل في شخصيّة أبو حُسام التي يجسّدها الفنان الكبير عبد الهادي صبّاغ، الذي كان ملح العَمل، ونواة رواية صراع المُهمّش مع السُلطة. بعبقريّة الممثل، دَمج بينَ الفكاهة والألَم في مشاهده، وعَمِل على إضفاء الأمل على روح المعاناة والتّحمّل، فهذا الشخص الذي يمثل طبقة كبيرة من السوريين، مِمّن خدموا وطنهم تحت راية الزي العسكري، عاشوا حياة أليمةً عصيبة بعدَ انتهاء الخدمة، ونزع البدلة العسكرية، إلّا أنّ وفاءه لوطنه وجيشه وحبّه الشديد للعسكر لَم يمنعه مِن نقد الحكومة والدّولة بمؤسساتها، ومِنَ المواجهة المباشرة مع أصحاب السلطة.
ففي أحد مشاهد الحلقة الخامسة المؤثرة فاجأني الكاتب، بنصه التالي: "مو عيب على الدّولة تعمَل فينا هيك؟ إنو بدهن يطلعونا من الحارة لإنه بدهن يهدّوها؟ شو عملو محلّ هالحارة؟ ساتِر تُرابي على أساس بدهن يحاربوا؟ ... يا عيب الشّوم بَس"
إلّا أنّه أنهى كلامه وحديثه بالحديث والدّفاع عن المؤسسة العسكرية والجيش فقال: "أنا لمّا كنت بالجيش حيط ما كنت هِدّ" ثمّ يسأل عبد الهادي الممثل القدير محمد حداقي (بدور أبو الزّين): "فَهّمني، فهّمني إنت وين البطولة؟"
ويستمر بالدّفاع عن الجيش فيقول: "بشو ضرّك الجيش؟ ما عم يحميك ويحرسك؟"
شارك بالمشهد بالإضافة إلى المذكورين أعلاه، الفنان القدير قُصي الخولي (بدور جابر)
إستطاع فيه الكاتِب أن يلامس الألم الذي يعانيه الإنسان السّوري، وبتلميحات للأزمة الحالية، مطالِبًا بإعانة حالات المواطن السّوري الذي يعيش حالات ذُل وفَسادْ، إلّا أنّه دعم بشكل مباشر المؤسسة العسكرية وحمايتها لأمن وسلامة الدّولة السوريّة. لقَد ذكرَ أبو حسام في حواراته قضيّة الأمن والأمان كثيرًا، ولَمستُ في حديثه تفضيل الأمن والأمان على كل شيء في الدّولة، فوضعها أساسًا لبناء مجتمع ودولة ذات سيادة وإستقلال وهيبة. يشير بذلك إلى لُب وجوهر الأزمة السورية، التي يعاني فيها الإنسان السوري من نقص في الأمان، حيث أن المطالبة بالتغيير والإصلاح لا تتعارض مع الإخلال بالأمن، بل بسط الأمن جزء أساس من إعادة هيكلة الدولة والمجتمع، وبالتوازي.

عابِد فَهد، الأجهزة الأمنية، العصابات المسلّحة:
لا شكّ أن شخصية المقدم رؤوف التي أبدعها الكبير عابد فهد، كانَت أساسًا للعمل وركيزة لَه، فتوسيع رقعة الدور عن ما كانت في الجزء الأول، ساهم في رفع مستوى العمل فنيًا ومضمونًا. عبّر وجود المقدم رؤوف عن واقع الحال في كل الدول العربية، التي تعاني هيمنة وبطش وظلم ضباط أجهزة أمن الدولة، وسعيهم لبسطر سلطتهم على الضعفاء والمهمشين وأكل دور أصحاب الرّتب الأعلى، فقد تبيّن من خلال شخصيّة المقدّم رؤوف أنّه سُلطة بحد ذاتها يمكنها التّاثير على القيادة لما تملكه من ملفّات سريّة قادرة على الإطاحة بأي رمز أمني أو سياسي، ولعلّ هذا الأمر يوضّح أن الدول العربية ما زالت تعيش زمن الإبتزاز والسلطوية والمقايضة والتجارة بالمراكز على حساب المواطن البسيط.
على الرّغم من وجود هذا الوجه السيء في المقدم رؤوف، إلّا أنه أظهر حِرصه وحبّه للدولة وأمن الدولة، فقد سعى جاهِدًا للقبض على المجرمين الذين يعيثون فسادًا، وإن كان هوَ أيضًا يمثل فسادًا مُعينًا.
ما لمسته في كتابة سامر رضوان هو التشعبات الكبيرة، وصراعات الفساد داخل الفساد، حيثُ كانت الألعاب تجري في ساحة الكِبار، وكانت الحَربُ بينَ الكبار.
شكّل دخول الفنّان باسم ياخور بدور أبو نبال، مفترقًا مفصليًا في أحداث المسلسل، وتبلورت شخصيّته مع تقدم الحلقات، وكانت المفاجأة أن هذا الإنسان الوحشي الهمجي الذي لا يملك الرّحمة، كانَ ضابطًا، وهو الآن يعمل تحتَ إمرة أحد رموز الدولة والقيادة السوريّة، في ضربة قاسمة للدولة السورية التي لَم تعرِف طوال عقود تطهيرَ مؤسساتها ومسؤوليها، وأبقت على حماية هؤلاء الذين دمّروا حياة المواطن البسيط بكل ما تحمله الكلمة من معنى. ففي مشهدٍ رائع فاق كل التصوّرات، وتخطى حدود الإمكانِ والجرأة، إستطاع الكاتب أن يعطي نموذجًا عن شكل التعديات التي يقوم بها هؤلاء، حيثُ دخلَ أبو نبال (باسم ياخور) إلى فيلّا فيها رجلان و3 نساء، وبعيدًا عن أسباب التعدّي، طَلبَ أبو نبال من النساء أن يرقصنَ ويمتّعنّ نظره كي يعفي عن والدهنّ، مشهدّ غاية في الروعة والدقة تقشعر له الأبدان، فيه يتساءل المشاهد:"هل يحدثُ هذا فِعلًا؟".
كانتَ عصابة أبو نبال تشبه العصابات المسلّحة التي نراها اليوم في التلفاز، والتي يُروى عنها، ما الذي ألمح إليه الكاتب من وراء دور باسم ياخور؟ أعتقد بربطي للأزمة الحالية في سورية، أراد الكاتِب إلى إظهار نقطة جوهريّة مهمّة، وهي أن مصطلح العصابات المسلحة، لا يقتصر فهمه فقط على المعارضين المسلّحين الذين يهاجمون كيان الدّولة السورية، بل يتعداه ليشمل عصابات الأمن والدولة السّورية، التي لَم يقف أحدٌ أمامها وكانت من الأسس لإندلاع ما يحصل الآن في البلاد، فعدم تطهير هذه الأجهزة قَد أجهَزَ على الدّولة السورية وسيادتها، وعدم محاسبة الداعمين لها أيضًا ساهم في تفاقم الوضع.

الحلقة الأخيرة: جرأة وتحدٍّ وإستفزاز للمشاهد
في الوقت الذي كان المشاهدُ يحبس أنفاسه طوال حلقات المسلسل منتظرًا حلًا للمشاكِل، إنتهت الحلقة الأخيرة بِكُل واقعيّة وكأنّها لَم تنته. المشاكِل لَم تُحل، بل تفاقمَت وكَبرت، أراد الكاتب من خلالها أن يشير إلى أن المشاكِل لا تنتهي، وأن حياة المواطن العربي هي هي لن تتغيّر إلّا بحالة وحيدة من الممكن أن نراها في الجزء الثالث. لقد أنهى الكاتب النّص منتظرًا الأحداث في سورية، ففي الحلقة الأخيرة لامست تشابهًا كبيرًا بين أحداث الحارة بعد هجوم الأمن عليها، وبين ما يحدث اليوم في سورية، لكنّ أروع ما في المشهد، هو رفض "أبو الزين" لحمل السّلاح، وأشار إليه عاليًا بعدما إستولوا على الأسلحة من رجال الأمن وقال:"وهاد (بالإشارة إلى السلاح) ما بدنا ياه". وكان هذا مشهد يشكل ضربة قاسمة للمطالبين بالحريّة والتغيير والإصلاح وهم رافعين السلاح في وجه البلد والدولة.
لا شكّ أن الإرادة والمبادرة هُم من أسس حلّ المشاكل، فمعرفة الحق والوقوف إلى جانبه المعاناة، كانوا محورًا أساسيًا في رد فعل أهل الحارة على هجوم الأمن، ولعدم الدّخول في التفاصيل الدقيقة للمَشاهِد، يمكنُ التّلخيص بالقول أنه في ظل الأزمة التي تعصف بالبلادْ، وضع الكاتِب جامَ غضبه ولومه على القيادة والنّظام السّوري، موجّهًا رسالة للمطالبين بالحريّة والتّغيير بالتحلّي بروح الثورة الحقّة، السلمية الفكريّة، مشهَد التّخلي عن السلاح شكّل ضربة قويّة للمسلّحين والعصابات التي تدّعي المطالبة بالحريّة، لكن في المقابِل، شكّل هجوم قوّات الأمن ونص الفنان القدير محمد حداقي أمام الحارة وأمام الوزير، نقطة فاصلة ولسعة قوّية للنظام ولتصرّفاته العبثيّة مع الشعب والمواطنين.

لا يسعني الخوض في كُل تفاصيل الحلقات، فهذا يحتاجُ وقتًا كبيرًا، ويحتاجُ دراسةً أعمق لكل الحلقات على انفراد.
لَم أجد وسيلة للتعبير عن أهمية المسلسل غير الكتابة، وإن لم أعطه حقّه الكامل، فهذا المسلسل بُكل عناصره يحتاج التدقيق والتفصيل، ولا أتردد في مشاهدته مرّة أخرى، ولعلّه مؤشر لبداية عصر جديد من الدراما السورية تمتلك الجرأة والتحدي.
لَم أرَ بطلًا واحِدًا في المسلسل، فقد كانَ القدير قُصي الخولي والقدير باسم ياخور والقدير عبد الهادي صبّاغ ومحمد حداقي قمّة في الأداء الدرامي والتحوّل الدراماتيكي للشخصيات، كما أظهرت القديرة شكران مرتجى إبداعًا كوميديًا رهيبًا شدّ المشاهد للتمعّن فيها.
مرّت ساعاتُ الجّمر كجمرٍ كما قالها محمد حداقي في المشهد الأخير:" يا ريتك خفت علينا زي ما خفت على هالسمكات، شوف كيف عم بتألّموا، نحنا عم نتألم كل يوم، الفرق الوحيد إنه هني عم يتألّموا وتحتن أرضية من رخام، بس نحنا تحتنا، جمر".
وكانَت أحداث المسلسل بالفعل، ولادة من الخاصرة. 

موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرا في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.net


 

مقالات متعلقة