جلس الرسول صلى الله عليه وسلّم ذات يوم مع أصحابه , فجاء رجل وشتم أبا بكر الصدّيق رضي الله عنه وآذاه , فسكت أبو بكر ولم يردّ عليه , فشتمه الرجل مرة ثانية , فسكت أبو بكر , فشتمه ثالثة فردّ عليه أبو بكر , فقام صلى الله عليه وسلّم من المجلس وتركهم , فقام خلفه أبو بكر يسأله : هل غصبت عليّ يا رسول الله فقمت ؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلّم : ( نزل مَلَك من السماء يكذّبه بما قال لك , فلما انتصرت – أي رددت عليه – وقع الشيطان – أي حضر - , فلم أكن لأجلس إذا وقع الشيطان ) رواه أبو داوود .كانت السيدة عائشة رضي اله عنها, تجلس مع النبي صلى الله عليه وسلّم , فأقبلت عليهما أم المؤمنين السيدة صفية بنت حُييّ رضي الله عنها , فقالت السيدة عائشة للنبي صلى الله عليه وسلّم : حسبك من صفية كذا وكذا – تعني أنها قصيرة القامة , فقال لها النبي صلى الله عليه وسلّم : ( لقد قلتِ كلمة لو مُزِجتْ بماء البحر لمزجته - عكّرته -). رواه أبو داوود والترمذي , أي أن تلك الكلمة قبيحة لدرجة أنها تُنْتِن ماء البحر لِقُبحها وسوئها .المقصود :حفظ اللسان هو ألا يتحدث الإنسان إلا بخير , ويبتعد عن قبيح الكلام وعن الغيبة والنميمة والفحش , وغير ذلك .والإنسان مسؤول عن كل لفظ يخرج من فمه , بحيث يُسجّل عند الله سبحانه ويحاسبه عليه , ويقول الله تعالى :( ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ) ق:18. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تُكفّر اللسان ( تذّل له وتخضع ) تقول : اتق الله فينا , فإنما نحن بك , فإن استقمت استقمنا , وإن اعوججت اعوججنا ) رواه الترمذي . وقال صلى الله عليه وسلّم :( لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه , ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه .) رواه أحمد . وقال ابن مسعود : والذي لا إله غيره , ما على ظهر الأرض شئ أحوج إلى طول سجن من لسان .
الضوابط :من أراد أن يسلم من سوءات اللسان فلا بد له من أمور أهمها :أن لا يتكلم إلا لينفع بكلامه نفسه أو غيره , أو ليدفع ضرّا عنه أو عن غيره .أن يتخيّر الوقت المناسب للكلام , وكما قيل : لكل مقال مقام . ومن تحدّث حيث لا يحسن الكلام كان عرضة للخطأ والزلل , ومن صمت حيث لا يجدي الصمت استثقل الناس الجلوس إليه.أن يقتصر من الكلام على ما يحقق الغاية أو الهدف , وحسبما يحتاج إليه الموقف , ومن لم يترتب على كلامه جلب نفع أو دفع ضر فلا خير في كلامه , ومن لم يقتصر من الكلام على قدر الحاجة , كان تطويله مملا , فالكلام الجيد وسط بين تقصير مخلّ وتطويل مملّ . وقيل : اقتصر من الكلام على ما يقيم حجتك ويبلغ حاجتك , وإياك والزيادة فيه فأنه يزَلّ القدم , ويورث الندم .أن يتخيّر اللفظ الذي يتكلم به , قال الشاعر :وزن الكلام إذا نطقْتَ , فإنما يُبدي عيوب ذوي العيوب المنطقولا بد للإنسان من تخيّر كلامه وألفاظه , فكلامه عنوان عقله وأدبه , وكما قيل : يستدل على عقل الرجل بكلامه , وعلى أصله بفعله .عدم المغالاة في المدح , وعدم الإسراف في الذم , لأن المغالاة في المدح نوع من التملق والرياء , والإسراف في الذم نوع من التشفّي والانتقام . والمؤمن أكرم على الله تعالى وعلى نفسه من أن يوصف بشيء من هذا ولأن التمادي في المدح يؤدي بالمرء إلى الافتراء والكذب .أن لا يرضي الناس بما يجلب عليه سخط الله عزّ وجلّ . قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( من أرضى الناس بسخط الله وكّله الله إلى الناس , ومن أسخط الناس برضا الله كفاه الله مؤونة الناس ) . رواه الترمذي .ألا يتمادى في إطلاق وعود لا يقدر على الوفاء بها , أو وعد يعجز عن تنفيذه يقول تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لمَ تقولون ما لا تفعلون . كَبُر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ) الصف : 2-3 .أن يستعمل الألفاظ السهلة التي تؤدي المعنى بوضوح , قال علية الصلاة والسلام : ( إن من أحبّكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا , وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون , والمتشدقون والمتفيهقون ) , قالوا : يا رسول الله , قد علمنا الثرثارون والمتشدقون فما المتفيهقون ؟ قال : ( المتكبرون ) . واه الترمذي .ألا يتكلم بفحش أو بَذاءة أو قُبح , ولا ينطق إلا بخير , ولا يستمع إلى بذيء , ولا يصغي إلى متفحّش . وقيل : اخزن لسانك إلا عن حق تنصره , أو باطل تدحره , أو خير تنشره , أو نعمة تذكرها .أن يشغل الإنسان لسانه دائما بذكر الله عزّ وجلّ ولا يخرج منه إلا الكلام الطيب . رُويَ أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال : ( لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله , فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب , وإن أبعد الناس عن الله القلب القاسي ). رواه الترمذي . الفضل :سئل النبي صلى الله عليه وسلّم : أي الإسلام أفضل ؟ قال عليه الصلاة والسلام : مَنْ سلم المسلمون من لسانه ويده ) متفق عليه . وقال عقبة بن عامر : يا رسول الله , ما النجاة ؟ فقال صلى الله عليه وسلّم : ( أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك , وابكِ على خطيئتك ) . رواه الترمذي .ومن صفات المؤمنين أنهم يحفظون لسانهم من الخوض في أعراض الناس , ويبتعدون عن اللغو في الكلام , قال الله عزّ وجلّ : (وإذا مروا باللغو مروا كراما ) الفرقان 172 . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو فليصمت ) . متفق عليه .الغيبة :الغيبة هي أخطر أمراض اللسان , وقد نهانا الله سبحانه عن الغيبة وشبّه من يغتاب أخاه , ويذكره بما يكره , ويتحدث عن عيوبه في غيابه , كمن يأكل لحم أخيه الميت , فقال تعالى : ( ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله توّاب رحيم ) الحجرات : 12 .وحذّر النبي صلى الله عليه وسلّم صحابته من الغيبة , فقال عليه الصلاة والسلام : ( أتدرون ما الغيبة ؟ ) قالوا : الله ورسوله أعلم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( ذِكرُك أخاك بما يكره ) , فقال أحد الصحابة : أرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ فقال صلى الله عليه ويلّم : ( إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته , وإن لم يكن فيه فقد بَهَتّه ) . رواه مسلم .والغيبة تؤدي إلى تقطيع روابط الألفة والمحبة بين الناس , وهي تزرع بين الناس الحقد والضغائن والكره , وهي تدلّ على خبث مَنْ يقولها وامتلاء نفسه بالحسد والظلم .الذي يغتاب الناس يكون مكروها منبوذا منهم , فلا يصادقه أحد ولا يشاركه أحد في أي أمر . وقال أحد الحكماء : إذا رأيت من يغتاب الناس فابذل جهدك ألا يعرفك ولا تعرفه .والغيبة تُفسد على المسلم سائر عباداته , فمن صام واغتاب الناس ضاع ثواب صومه وكذلك بقية العبادات . ويروى أن امرأتين صامتا على عهد النبي صلى الله عليه وسلّم , وكانتا تغتابان الناس , فعلم النبي صلى الله عليه وسلّم ذلك , فقال عنهما : ( صامتا عمّا أحلّ الله , وأفطرتا على ما حرّم الله ) . رواه أحمد . والغيبة عذابها شديد , وعقابها أليم يوم القيامة , قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : ( لمّا عُرِج بي ( أي في رحلة الإسراء ) مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخْمِشون وجوههم وصدورهم , فقلت : مَنْ هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم ) . رواه أبو داود .مُباحات :هناك أمور أباح الإسلام فيها للمسلم أن يذكر عيوب الآخرين من غير أن تُعدّ غيبة يُعاقب عليها , نذكرها في عُجالة :التظلّم للقاضي أو الحاكم .تغيير المنكر ورد العاصي إلى الرشد والصواب .تحذير المسلمين من الشر ونصيحتهم .المجاهرة بالفسق والبِدع .التعريف : إذا كان بعض الناس لا يُعرف إلا بلقب يُسمّى به بين الناس كأن نقول : فلان الأعمش أو الأحول أو الأعرج , فذلك جائز إذا كان الغرض معرفة الإنسان , ولا يجوز إذا كان الغرض سبّه وتنقيصه .
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المرسلين
عمر رزوقأبوسنان