في الأيام الأخيرة من هذا العام، لا نغلق رزنامةً بقدر ما نواجه مرآةً ثقيلة. عامٌ لم يكن عابرًا في قسوته، ولا بريئًا في تناقضاته؛ عامٌ أجبرنا على النظر طويلًا في هشاشتنا، وفي زيف كثير من المسلّمات التي اعتدنا الاحتماء بها. نودّعه لا بحنينٍ رومانسي، بل بمحاسبةٍ صامتة، لأن ما جرى لم يكن تفصيلًا، بل علامة فارقة في الوعي.
في الشرق الأوسط، لا يمرّ الزمن كحدثٍ محايد، بل كقوة ضغطٍ مستمرة. السياسة هنا لم تعد شأنًا عامًا يُناقَش من مسافة، بل قدرًا شخصيًا يتسلّل إلى تفاصيل الحياة اليومية، ويعيد تشكيل الإنسان من الداخل. تحوّلت من إدارةٍ للاختلاف إلى إدارةٍ للخوف، ومن مشروعٍ للمستقبل إلى آلية ضبطٍ للحاضر. لم يعد المواطن متلقيًا للقرار فحسب، بل حقل اختبارٍ دائم لنتائجه.
هذا العام، انزلقت المفاهيم الكبرى من معناها الأخلاقي. السلام قُدِّم بوصفه غيابًا مؤقتًا للصراع لا تحقيقًا للعدالة، والاستقرار تحوّل إلى اسمٍ آخر للجمود، والسيادة أُفرغت من بعدها الإنساني لتصبح أداة تفاوض. لم يكن الصراع على الأرض وحدها، بل على الرواية، على الذاكرة، وعلى حق الإنسان في تسمية الأشياء بأسمائها. حتى اللغة لم تسلم؛ جرى ترويضها لتبرير الواقع بدل مساءلته، ولتخفيف قسوته بدل فضحها.
اجتماعيًا، كان الانكشاف أعمق. تآكلت الطبقة الوسطى بصمت، واتّسعت الهوة بين من يملكون فائض القرار ومن يعيشون على هامشه. الفقر لم يعد حالة طارئة، بل نمط حياة مُقنّع بخطاب الصبر والتكيّف. العائلة، التي شكّلت تاريخيًا خط الدفاع الأخير، بدأت تتصدّع تحت ضغطٍ اقتصادي ونفسي متراكم. أما الشباب، فقد وجدوا أنفسهم في مواجهة زمنٍ يطالبهم بالمرونة بينما يسلبهم الخيارات، ويدعوهم إلى الأمل دون أن يمنحهم أسبابه. كبروا مبكرًا، وتعلّموا أن الأحلام في هذه الجغرافيا تحتاج إلى أكثر من الإيمان.
document.BridIframeBurst=true;
var _bos = _bos||[]; _bos.push({ "p": "Brid_26338945", "obj": {"id":"19338","width":"100%","height":"320"} });ومع ذلك، لم يكن العام خرابًا خالصًا. في عمق الإنهاك، تشكّل وعيٌ أقل سذاجة، وأكثر حذرًا من الشعارات. تراجع الإيمان بالأجوبة الجاهزة، وتقدّم السؤال بوصفه فعل مقاومة. رأينا أفرادًا—لا جماعات—يصرّون على المعنى في زمن التواطؤ: صحفي يرفض التزييف، مثقف يعيد النظر في يقينياته، إنسان عادي يتمسّك بإنسانيته وسط خطاب الإقصاء. بدت هذه الأفعال صغيرة في ظاهرها، لكنها كانت كافية لتذكيرنا بأن المجتمعات لا تُهزم دفعة واحدة.
نستقبل عامًا جديدًا ونحن نعلم أنه لن يكون صفحة بيضاء. فالتاريخ في هذه المنطقة لا يُغلق بسهولة، وما لم يُواجَه يعود بأشكالٍ أكثر تعقيدًا. عام المفاجآت لا يعني بالضرورة عام المعجزات؛ قد يكون عامًا لانكشافات قاسية، أو لصمتٍ ثقيل يسبق تحوّلًا بطيئًا. القيمة الحقيقية لأي بداية لا تكمن فيما تحمله لنا، بل فيما نحمله نحن إليها: وعيٌ أقل انبهارًا، وشجاعة فكرية أكبر، واستعداد للاعتراف قبل الإدانة.
الشرق الأوسط لا يحتاج إلى نبوءات خلاص، بل إلى مصالحة جذرية مع الحقيقة، مهما كانت موجعة. يحتاج إلى سياسة ترى الإنسان غاية لا أداة، وإلى ثقافة تُعيد الاعتبار للسؤال لا بوصفه ضعفًا، بل كأعلى أشكال القوة. فالأمم لا تنهض حين تتفق على الأجوبة، بل حين تمتلك الجرأة على الاختلاف بوعي ومسؤولية.
نودّع عامًا انكسر فيه الكثير، ونخطو نحو آخر لا نعرف ملامحه، لكننا نعرف أن الكتابة عنه—بصدق، وبعمق، وبانحيازٍ للإنسان—هي فعل مقاومة في زمنٍ يتآكل فيه المعنى. وفي منطقةٍ اعتادت أن تُختزل في صراعاتها، تبقى الكلمة الحرة محاولة أخيرة لحفظ الذاكرة، وصون الوعي، وفتح نافذة—ولو ضيقة—نحو مستقبلٍ أقل قسوة مما نخشاه.
عنوان: اختبار طريقة اختبار الشارع P.O. 60009 دولور / ألاسكا
الخامس +1 234 56 78
فاكس: +1 876 54 32
البريد الإلكتروني: amp@mobius.studio