امسكت بيدي هاتفة بي، تعال يا بني. إلى أين يا أمي. ألن أذهب اليوم إلى المدرسة؟. لا لن تذهب. أنت ما زلت في صفّ البستان، يقولون إن الأطفال في هذه السن يمكنهم أن يتغيّبوا، دون أن يتضرّروا. فركتُ يدي بفرح خفيّ، كي لا أشعر أمي بما شعرت به من فرح وسرور. إلى أين سنذهب ؟.. لم تردّ أمي.. وانطلقت باتجاه سوق البلدة القديمة. بسرعة الفهم عرفت إلى أين نحن متجهان. أمي: سنذهب الآن إلى قريبتنا كريمة مختار، لم تكن هذه من أقربائنا اللزم. وإنما كانت متزوّجة لاحد محظوظي عائلتنا. هذا المحظوظ آثر أن يبقى في الناصرة مُنعّمًا بأحضان محبته لبنت الحسب والنسب، مُنفصلًا عن جميع أبناء العائلة الذين ولووا باتجاه الأردن ليقيموا هناك في حين نقيم نحن وقريبنا الوحيد هذا في الناصرة.
خرجنا مِنَ الحيّ الشرقي صاعدين طلعة الديرا سانطة، في طريقنا الذهبي إلى جنة السوق، وكنّا كلّما اقتربنا منه زكمت أنفي رائحة قصب المصّ. ترى هل ستشتري أمي لي قضيب قصب المصّ من الجرينة القريبة، كما فعلت في السابق، قبل دخولي المدرسة؟.. مؤكد أنها ستفعل، فانا جائع يا امي.. جائع.. ما كان علينا أن نخرج من بيتنا قبل أن تطعميني، ولو لقيمات قليلات.
الطريق مِن بيتِنا إلى السوق كان طويلًا جدًّا، فقد كنت استعجل الدقائق واللحظات لأن تمرّ ولأن أصل إلى هناك حيث أسكت جوعي لدى قريبتنا الغنيّة المُرفهة.. كريمة مختار.. زوجة قريبنا السيد ضرار افندي. الطريق إلى هناك يطول، وانتظاري للوصول يطول، وها نحن نصعد درجات بيت قريبتنا. أو نسيبتنا.. سمّها ما شئت، فهي زوجة قريبنا، وقريب قريبك قريبك.
قرعت أمي الباب الخارجي للبيت.. المُطلة نوافذه على خيرات السوق وبركاتها. فأطلّ وجه قريبتنا الطيبة الكريمة، كريمة مختار، رحبّت بأمي داعيةً إياها للدخول، وناظرةً نحوي بقليل مِنَ الرضا. فهمت من ذلك أنها ترحّب بأمي، ولا ترحّب بي.. أنا الطفل الصغير. دخلت وراء أمي، أغلقت نسيبتنا الباب وسرنا وراءها باتجاه الداخل. استقبلنا هناك في الغرفة الصغيرة المفروشة بفرش عتيق لاستقبال الضيوف، قريبنا ضرار افندي، صاحب البيت. استقبلنا بابتسامة جافة جامدة.. ملأى بالحَيرة والكبرياء، ولم تنهها إلا نظرة من عينيّ زوجته. خرج قريبنا غير مودّع، وكأنما هو لا يعرف إلى أين يتوجّه بعد أن أشعرته زوجته بنت الاكابر المنعّمة، أنه صار الآن غير مرغوب بوجوده. تابعت بنظرات طفولتي المتوثّبة الراغبة في فهم كلّ ما يدور حولها.. تابعت خطوات قريبنا حتى وصل إلى الباب الخارجي للبيت. ليردّ الباب وراءه بقوة ما. أرسلت نظرةً متفحصة لأرى تأثير تلك الردة على زوجته المُكرّمة. فرأيتها تبرم بوزها مهددةً متوعدةً.
document.BridIframeBurst=true;
var _bos = _bos||[]; _bos.push({ "p": "Brid_26338945", "obj": {"id":"19338","width":"100%","height":"320"} });بينما أنا أتابع وقع قدميّ قريبنا المسكين على ادراج البيت المؤدية إلى السوق، بدا لي أنه يتوه في عالم من الفراغ والخواء، استغرقتني أفكار ملأى بالاخماس والاسداس، ولم أفق منها، إلا لأرى نسيبتنا الكريمة المختارة، تحمل بيدها غلاية القهوة، وتجلس إلى جانب أمي، متجاهلة وجودي، "لقد غليت أفضل فنجان قهوة.. سنشربه معًا"، قالت، وزادت:" أريدك أن تفتحي لي فنجاني.. أن ترَي إلى أين ستفضي بنا الأمور"، ابتسمت أمي. في حين طلبت مني صاحبة البيت أن أخرج للعب في باحته الضيقة الصغيرة. انصعت لطلبها هذا، غير أنني حافظت على أن استمع إلى كلّ كلمة تُقال هناك في الداخل. فأنا مجبول على حبّ الاستطلاع ولا أدع شاردة أو واردة تفوتني، أما والوضع كذلك يا كريمة مختار فإنني سأستمع إلى كلّ كلمة، بالضبط كما سأستمتع بما ستقدمينه من طعام ومأكل، بعد ان تفتح لك امي فنجان القهوة.
في الخارج. كنت أشعر بكلّ ما يدور في الغرفة هناك في الداخل، صاحبة البيت: أريدك أن تفتحي لي فنجاني، أنا مُتعبة قليلًا. أريد أن أرى ما يخبّئ لي القدر اللعين. أمي: اسم الله عليك. ابنة العزّ انت. سأقرأ لك طالعك. هاتي فنجانك هاتيه. أشعر أن صاحبة البيت تقدّم فنجانها المقلوب على صينية الضيافة لينشف. أمي تتناوله. لقد بتُّ عارفًا لما ستقوله أمي لها، فقد فهمتْ ما تريد أن تسمعه منها، أنا أعرف أمي كما أعرف نفسي، فقد فتحت فناجين كلّ نساء الحارة. وكنت أرقبها كيف تقرأ تلك الفناجين. منتظرة ردود الأفعال، لتبني عليها بالتالي ما ستقوله. تتمعّن أمي داخل فنجان مضيفتنا، تقول لها: فنجانك أبيض مثل قلبك. تعلّق نسيبتنا: قلبي أبيض. لكن حظيّ اسود. ما كان عليّ أن أعصى أوامر عائلة المختار. كنت استحق حظًّا أفضل وأوفر. بدا أن أمي فهمت الرسالة، فأردفت تقول لها: أنظري.. أنظري ماذا أرى.. هنا توجد أفعى.. تفتح فمها.. هذه الافعى الكارهة لك. تعلّق المضيفة: أعرفها هذه قريبة لي. كانت دائمة المنافسة لي.. ليتني ما دخلت معها في منافسة، ليتها انتصرت عليّ وتزوجت منه. تجاهلت أمي ما قالته صاحبةُ الفنجان وانصرفت إلى فكرة أخرى. ها أنذي أرى الفرج يأتي مِن أكثر مِن طريق.. انظري إلى الطُرق المفتوحة أمامك، إنها كثيرة. بعد إشارة .. إشارتين أو ثلاث.. لا أعرف بعد ثلاثة أيام أو ثلاثة أشهر.. ستجدين نفسكِ وقد ارتحت. شعرتُ بأمي تريد أن تنهي عملية فتح الفنجان بكلمة طيّبة.. ترضي المرأة الغاضبة المتوترة قُبالتها. قدّمت أمي لها الفنجان الفارغ، وطلبت منها أن تطبع إبهامها في قاعه كي ترى إلى نصيبها النهائي. فعلت صاحبةُ البيت ما طلبت منها أمي أن تفعله. أرسلت أمي نظرةً متمعّنة متعمقة إلى أقصى حدّ. وقطّبت ما بين حاجبيها، وتوجّهت إلى المرأة المترقّبة المنتظرة قُبالتها، قالت: تقولُ طبعةُ اصبعك، إنك ستتخلّصين مِن كلّ ما يضايقكِ ويؤلمك.. وإنك ستكونين دائمًا مِنَ الفائزين المنعّمين. "مَن فمك لباب السما"، قالت صاحبة البيت وتابعت تقول:" إذا تخلّصت منه وتحقّق ما في بالي.. سأحلي فمك بأفضل الحلويات"، همّت أمي بالوقوف تمهيدًا للخروج، فدعتها صاحبة البيت للجلوس، ريثما تُعدّ طعامَ الإفطار، غير أن أمي استأذنتها وخرجت نازلة درجات بيتها بسرعة مَن يريد أن يهرب من شرٍّ قريبٍ قادم. انطلقت أمي شقّ عُباب الفضاء العامر، ممسكة بيدي ومارّة مِن قبالة بسطات الخُضار الحافلة بكلّ ما تطلبه الشفة واللسان، وكان أن مددت يدي إلى قواضِب قصب المصّ المنتصبة هناك، فانتهرني صاحب البسطة متهمًا إياي بنية بالسرقة. وطالبًا منّا أن نبتعد عن بسطته. فرحنا نبتعد ونبتعد وكنّا، امي وأنا، كلّما ابتعدنا عن السوق ، بسطاته ودكاكينه العامرة.. نرى إلى ما يخبّئه من خراب ودمار .. عندما وصلنا إلى نزلة الديرا سانطة عاودني الشعور بالجوع.. القاتل.. وأنا أرسل النظر إلى جنّة الله على الأرض.
عنوان: اختبار طريقة اختبار الشارع P.O. 60009 دولور / ألاسكا
الخامس +1 234 56 78
فاكس: +1 876 54 32
البريد الإلكتروني: amp@mobius.studio