خاطرة

بين التصفيق الرقمي وتآكل المعايير: قراءة نقدية في المشهد الأدبي المحلي ضمن السياق العربي

كل العرب 23:42 17/12 |
حمَل تطبيق كل العرب

لا يرمي هذا المقال إلى مهاجمة وسائل التواصل الاجتماعي بوصفها أدوات للتواصل، ولا يدعو إلى التخلي عن استخدام المنصات الرقمية. فلا شك أن هذه الوسائل قد وسّعت آفاق التعبير وعززت فرص الظهور والانتشار. بيد أن مكمن القلق يتجسّد فيما يحدث حين تتحوّل منصات مثل فيسبوك من مجرد فضاءات للمشاركة إلى بديل عن معايير التقييم والنقد الأدبي الرصين. 

غدت وسائل التواصل الاجتماعي في مجتمعنا العربي في السنوات الأخيرة أكثر الفضاءات شيوعًا لنشر الكتابة الأدبية. ففي مقال بعنوان "شعراء وأدباء عرب: وسائل التواصل الاجتماعي خلقت تفاعلًا حيًا بين الشاعر والجمهور"، نشره الصحفي والإعلامي المصري أحمد منصور على موقع "اليوم السابع" بتاريخ 10 تشرين الثاني 2024، يشير الكاتب إلى أن عددًا متزايدًا من الشعراء والكتّاب العرب — بل والأجانب — باتوا ينشرون نصوصهم مباشرة على صفحاتهم في فيسبوك وإنستغرام وتويتر، ويتفاعلون مع جمهور واسع من القرّاء. ويؤكد المقال أن هذا النمط من التفاعل المباشر والفوري بين الكاتب والقارئ لم يكن متاحًا بنفس الدرجة قبل ظهور هذه المنصات الرقمية، الأمر الذي رسّخ وسائل التواصل الاجتماعي بوصفها ساحة أدبية مؤثرة في حياة شريحة واسعة من المجتمع العربي اليوم.

تزدحم الصفحات الشخصية يوميًا بالقصائد، والقصص القصيرة، والشذرات التأملية، التي غالبًا ما تُقدَّم في ثوبٍ من الاعتداد بالنفس، ليعقبها فيضٌ غامر من الثناء والإعجاب. وقد ينظر البعض إلى هذه الظاهرة بوصفها انتصارًا لـ "دمقرطة الأدب". فقد أصبح بمقدور أي فرد الآن أن يكتب، وبإمكان أي فرد أن ينشر، ولكل فرد الحق في أن ينال نصيبه من التصفيق والمدح.

document.BridIframeBurst=true;

var _bos = _bos||[]; _bos.push({ "p": "Brid_26338945", "obj": {"id":"19338","width":"100%","height":"320"} });

وهنا يمكن الاستعانة بتحليل الكاتب الإيطالي أومبرتو إكو، الذي يُعبّر عن الظاهرة بدقة ساخرة، فيقول: "تمنح وسائل التواصل الاجتماعي حق الكلام لفيالق من الحمقى، ممن كانوا يتكلمون في المقاهي فقط بعد تناول كأس من النبيذ، دون أن يتسببوا بأي ضرر للمجتمع... أمّا الآن فلهم الحق بالكلام مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل. إنه غزو الحمقى".

يعكس قول إكو بوضوح التحوّل الجذري الذي أحدثته وسائل التواصل الاجتماعي في مجال التعبير، إذ صار لكل شخص، بغض النظر عن خبرته أو ثقافته أو اتقانه للأدب، الحق نفسه في الظهور وإبداء الرأي، ما قد يؤدي إلى خلط بين الصوت المبتدئ والنصوص الرصينة التي تحتاج إلى تقييم نقدي دقيق.

تثير هذه الحالة سؤالًا ملحًا: هل تشهد الساحة الأدبية في مجتمعنا اتساعًا حقيقيًا لآفاقه، أم تآكلًا في جوهر معاييره؟

لم يعتمد الأدب يومًا في شرعيته على الظهور الخاطف؛ فالكتابة الجادة تنضج على مهل، وتتطلب مراجعةً وقراءةً عميقةً وعرضًا على موازين النقد. تاريخيًا، تطور الأدب في كنف بيئات صارمة: مجلات أدبية، وهيئات تحرير، وحلقات فكرية، ومجتمعات أكاديمية حيث كانت النصوص توضع على محك الاختبار، وتواجه التحدّي، وكثيرًا ما كانت تواجَه بالرفض. لم تكن هذه العمليات عوائق في طريق الإبداع، بل كانت شروطًا أساسية لترسيخ رصانته. ويتجلى هذا بوضوح في مسيرة الأديب المصري نجيب محفوظ، الذي لم يكن يرى في النقد اللاذع أو رفض بعض نصوصه في بداياته عائقًا، بل كان يعتبر تلك الصرامة هي "المختبر" الحقيقي الذي يمنح النص الأدبي خلوده. ويمكن أيضًا في هذا السياق استحضار تجربة الروائي الفرنسي غوستاف فلوبير الذي كان يقضي أيامًا في مراجعة صفحة واحدة، مضحيًا بالانتشار السريع في سبيل الوصول إلى "الكلمة الدقيقة". لقد كانت شروط الكتابة لديه قاسية، مؤكدًا أن الرصانة الأدبية لا تأتي إلا عبر المرور بـ"مخاض" التقييم الذاتي والتمحيص الشديد.

على النقيض من ذلك، فإن فيسبوك مثلًا يكافئ السرعة والاستحسان؛ إذ تميل بنيته إلى الاحتفاء باللحظي، والأثر العاطفي، والإيجاز. فالنصوص التي تمنح القارئ شعورًا سريعًا وآنيًا بالرضا هي التي تنتشر، أما النصوص التي تتطلب صبرًا، أو تفكيرًا عميقًا، أو تستدعي تأملًا، فمصيرها التواري والاندثار. ومع مرور الوقت، لم تغيّر هذه البيئة طريقة قراءتنا للأدب فحسب، بل أعادت تشكيل طريقة كتابتنا له أيضًا. أصبح التعقيد مجازفة، والطموح الفني عبئًا على الكاتب، ولم يعد المعيار هو جودة الصنعة، بل شدة الوقع وكثرة الردود وحجم التفاعل.

ليست المشكلة إذن في نشر أي فرد لكتاباته عبر وسائل التواصل الاجتماعي؛ فالتعبير حقٌّ مكفول، والأصوات الجديدة تستحق مساحةً تبرز فيها. إنما تكمن المشكلة في أن وسائل التواصل الاجتماعي باتت تؤدي، وبشكل متزايد، دور "المرجع الأخير" والفيصل في التقييم، بدلًا من كونها مجرد منصة انطلاق أولية. لقد اختلطت الأمور حتى أصبحنا نخطئ الظن ونحسب أن مجرد الانتشار هو قيمة في حد ذاته، وأن التصفيق والإعجاب هو الإنجاز الحقيقي.

إنَّ إحدى أخطر التبعات لهذا التحوّل هي انهيار النقد. ففي ثقافة وسائل التواصل الاجتماعي الأدبية، غالبًا ما يُفسّر النقد على أنه نوع من العدائية، وتُقابَل أي محاولة لمساءلة الجودة بالرفض الفوري، بدعوى أنها نخبوية أو هجوم شخصي. ونتيجة لذلك، يدخل الكتاب والقراء في اتفاق ضمني على تبادل المديح؛ فتصبح كل قصيدة رائعة، وكل قصة مؤثرة، ولا أحد يجرؤ على طرح الأسئلة الصعبة.

لا يمكن للأدب أن ينمو ويتطور دون النقد. فالنقد ليس أداةً للإقصاء، بل هو شكلٌ من أشكال الاشتباك المعرفي والتواصل الحيّ. ودونه يُحرَم الكتَّاب من فرصة صقل مواهبهم وتجويد كتاباتهم، ويفقد القراء القدرة على التمييز بين التأثر العاطفي العابر وبين الإنجاز الأدبي الحقيقي. إن الثناء حين يُغدَق بغير استحقاق، لا يُغذي الإبداع الأدبي أبدًا، بل يكرّس الرداءة الأدبية.

تتجلى هذه الظاهرة بوضوح شديد في العالم العربي اليوم. فقد أدى تراجع المجلات الأدبية المستقلة، وضعف الهيئات الثقافية التي يُفترض أن تنتج نقدًا منهجيًا منتظمًا، وتهميش الحوار الثقافي الجاد، إلى حدوث فراغ هائل. وقد سارعت وسائل التواصل الاجتماعي لملء هذا الفراغ، مانحةً اعترافًا فوريًا بالكاتب في ظل غياب المنصات المؤسسية. بالنسبة للكثير من الكتَّاب، لم تعد وسائل التواصل الاجتماعي مجرد مساحة للظهور، بل صارت المصدر الأساسي للشرعية الأدبية.

وعلى الرغم من أنَّ هذا التحوّل قد يبدو مبررًا، إلا أنه ينطوي على مخاطرةٍ كبيرة. حين تستأثر وسائل التواصل الاجتماعي بدور الناشر والناقد معًا، تتآكل المعايير لا محالة، وتحلُّ الخوارزميات محل المحررين، وتأخذُ الشهرة على المنصات الاجتماعية مكان التقييم الفني، ويصبح الأثر العاطفي اللحظي بديلًا عن الانضباط الجمالي.

يدعي المدافعون عن الأدب الرقمي بأن فيسبوك يمنح صوتًا للمهمشين ويكسر احتكار النخبة للشرعية الثقافية. وثمة جانب من الحق في هذا الزعم؛ فحرية الوصول إلى المنصات أمر جوهري، ولا ينبغي أن يقتصر حق الكتابة والمشاركة على نخبة ضيقة. بيد أنَّ تسهيل الوصول لا يعني إلغاء التقييم. منح الجميع حق الكلام لا يستوجب بالضرورة التخلي عن كافة معايير الحكم والنقد.

ويرى آخرون أن المؤسسات الأدبية التقليدية هي مؤسسات إقصائية، أو عفا عليها الزمن، أو منفصلة عن الواقع المعيشي. وهذا نقد لا يفتقر إلى الوجاهة؛ بيد أن استبدال مثل هذه المؤسسات بحالة من غياب المعايير كليًا ليس تحررًا، بل هو فوضى واختلال. إن الحل لا يكمن في إخراس صوت النقد، بل في إحيائه من جديد؛ نقد يتسم بالانفتاح والمسؤولية، ويترفع عن الاستعلاء.

في نهاية المطاف، ما على المحك ليس الحنين إلى ماضٍ ما قبل رقمي، بل مستقبل الأدب ذاته. فهل نريد للأدب أن يكون مجرد عرضٍ عابر صُمِّم لانتزاع التصفيق، أم ممارسةً منضبطةً تصوغ اللغة والفكر والخيال على مر الزمن؟

يمكن لوسائل التواصل الاجتماعي أن تؤدي دورًا في الحياة الأدبية بوصفها فضاءً للتلاقي، والتجريب، والظهور الأول. لكنها لا يمكن أن تكون بديلًا عن العمليات الشاقة والمتأنية التي يكتسب الأدب من خلالها عمقه وديمومته. إن الكتَّاب الذين لا ينشدون سوى الاعتراف الفوري بـمواهبهم، يخاطرون بالتضحية بالبقاء والخلود في سبيل لفت الأنظار فحسب.

الأدب الحقيقي لا يحتاج إلى إعلان نفسه بصخب، ولا تتوقف قيمته على عدد الإعجابات. هو يبقى ويستمر لأنه يصمد أمام النقد، ويمنح القارئ في كل قراءةٍ جديدًا، ويظل محتفظًا بقيمته وتأثيره طويلًا... حتى بعد أن يخبو صوتُ التصفيق.

وفي الختام، يبقى السؤال الأعمق ليس فقط عن وسائل النشر أو التفاعل الرقمي، بل عن دور القارئ نفسه في هذا المشهد الأدبي المتحوّل: هل يتذكّر القارئ دوره كناقد واثق في تقييم النصوص؟ هل يساهم في رفع مستوى الخطاب الأدبي بنقد بنّاء، أم يكتفي بإعجاب فوري بلا تمحيص؟ وهل نصنع من القارئ شريكًا في بناء الأدب وتطويره، لا مجرد مستهلك للتصفيق واللطف اللحظي؟

فالأدب الحقيقي — سواء في العالم المادي أو الرقمي — ينمو عندما يُقرأ بعين خبيرة وقلب منفتح، وعندما يُساءَل بنية صادقة. وهنا يكمن التحدّي الأكبر: تحويل جمهور الإعجابات إلى جمهور قارئ ناقد ومفكّر، قادر على الحفاظ على جوهر الأدب، لا فقط على الإعجاب به.

١٨-١٢-٢٠٢٥

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربة المستخدم. هل تسمح؟

عنوان: اختبار طريقة اختبار الشارع P.O. 60009 دولور / ألاسكا

الخامس +1 234 56 78

فاكس: +1 876 54 32

البريد الإلكتروني: amp@mobius.studio